للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُرْتَدِّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْمُزَنِيُّ بِمَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ فِي الرِّدَّةِ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ، وَأُرُوشُ جِنَايَاتِهِ، وَهَى لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَالِكٌ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَالِكٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ فَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَطَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِهَا، وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ بِمَالِكٍ، لِأَنَّهُ زَالَ عَنْهُ فِيمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَزُلْ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، كَالْمَيِّتِ إِذَا تَعَدَّى بِحَفْرِ بِئْرٍ فَمَاتَ فِيهَا حَيَوَانٌ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ فِي تَرِكَتِهِ وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: إِنْ قَالَ: مِلْكُهُ لَهُ بِإِجْمَاعٍ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ، وَهَذَا اسْتِصْحَابُ حَالٍ مَعَ تَنَقُّلِ الْأَحْوَالِ، وَانْتِقَالُ الْأَحْوَالِ مُفْضٍ إِلَى انْتِقَالِ الْأَحْكَامِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى بَقَائِهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِلْكَهُ بِالرِّدَّةِ خَارِجٌ مِنْهُ، كَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ خُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَلَمْ يُخْرِّجُوا فِي مِلْكِهِ إِلَّا قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَوْقُوفٌ.

وَالثَّانِي: ثَابِتٌ.

وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادَ بِهِ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَجَعَلُوهُ فِي الْمِلْكِ قَوْلًا ثَالِثًا. إِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَدَلِيلُهُ مَعْنَيَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ دَمَهُ بِالرِّدَّةِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْلِكُوا بِهَا مَالَهُ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمَالِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الدَّمِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَتِ الرِّدَّةُ فِي زَوَالِ مَنَاكِحِهِ اجْتِهَادًا وَجَبَ تَأْثِيرُهَا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ حِجَاجًا.

فَصْلٌ

وَأَمَّا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ الردة، فالردة موجبة للحجز عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِمَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَظَاهُرَهُ بِالرِّدَّةِ مَعَ إِفْضَائِهَا إِلَى تَلَفِهِ دَلِيلٌ عَلَى سَفَهِهِ، وَضَعْفِ عَقْلِهِ، وَيَكُونُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ جَارِيًا مَجْرَى حَجْرِ السَّفَهِ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ مَالَهُ يوجب الحجر مُفْضٍ إِلَى انْتِقَالِهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَإِفْضَاءِ مَالِ الْمَرِيضِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يُوجِبَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ جَارِيًا مَجْرَى حَجْرِ الْمَرِيضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>