وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِكٍ، ثُمَّ فَسَادُ مَا ذَكَرَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الشِّبَعِ، أَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا حَدَّ لِلشِّبَعِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَيْدٌ يَشْبَعُ مِنْهُ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ لِقِلَّةِ أَكْلِهِمْ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ خَمْسَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ لِكَثْرَةِ أَكْلِهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا فِي الْجَزَاءِ مُعْتَبَرًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ مَضْمُونٌ وَالشِّبَعُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ لَحْمِهِ الْمَأْكُولِ دُونَ عَظْمِهِ وَشَعَرِهِ وَجِلْدِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَعْضٌ مَضْمُونًا وَهُوَ اللَّحْمُ وَبَعْضٌ غَيْرَ مضمونٍ، وَهُوَ الْجِلْدُ وَالْعَظْمُ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الشِّبَعِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي صِيَامِهِ الطَّعَامُ دُونَ الشِّبَعِ بِالصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَقَالَ أبو حنيفة: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْإِطْعَامَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ فَجَعَلَ صِيَامَ يومٍ بِإِزَاءِ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ وَنَحْنُ بَيَّنَّا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، فَجَعَلْنَا صِيَامَ يومٍ بِإِزَاءِ إِطْعَامِ مِسْكِينٍ لِيَكُونَ جُوعُ يَوْمٍ بِإِزَاءِ إِشْبَاعِ مِسْكِينٍ فِي يومٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ الصَّيْدِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الصِّيَامِ، فَإِنْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ قُوِّمَ الصَّيْدَ لِلْمَقْتُولِ دَرَاهِمَ وَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْجَزَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَجَزَاءُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) {المائدة: ٩٥) ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْجَزَاءُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ لَهُ مِنَ النَّعَمِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْجَزَاءُ عَنْ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، فَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ الصَّيْدِ بِحَقِّ الْعُمُومِ مُحَرَّمًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ بِحُكْمِ الْبَعْضِ مَضْمُونًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قِيمَتُهَا؛ وَالْبَيْضُ لَا مِثْلَ لَهُ وَقَدْ حَكَمَتِ الصَّحَابَةُ فِي الْحَمَامَةِ بِشَاةٍ وَفِي الْجَرَادِ بِالْقِيمَةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَفِيهَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَ الصَّيْدِ لَهُ مِثْلٌ إِلَّا أَنَّ الْمِثْلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ.
وَالثَّانِي: مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ، وَجَمِيعًا مِثْلَانِ لِلْمُتْلَفِ، كَمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ طَعَامًا بِمِثْلِهِ، وَعَلَى مَنْ أَتْلَفَ عَبْدًا بِقِيمَتِهِ، وَكِلَاهُمَا مِثْلٌ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرُهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَخَلَ فِيهَا الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَغَيْرِهِ: وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute