للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، فَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَوْلًا ثَانِيًا، وَنَفَاهُ أَكْثَرُهُمْ عَنْهُ.

وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَقْسِمُ الشَّيْءَ الْمَشْهُودَ فِيهِ عَلَى عَدَدِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْأُخْرَى أَرْبَعَةٌ قَسَمْتُ الْمَشْهُودَ فِيهِ أَثْلَاثًا، فَجَعَلْتُ لِصَاحِبِ الشَّاهِدَيْنِ سَهْمًا، وَلِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ سَهْمَيْنِ.

فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَ الشَّيطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَبْعَدُ "، وَلِأَنَّ النَّفْسَ إِلَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ أَسْكَنُ، وَبِقُوَّةِ الْعَدَالَةِ أَوْثَقُ، وَلِذَلِكَ رُجِّحَتْ بِهَا أَخْبَارُ الرَّسُولِ، إِذَا تَعَارَضَتْ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَجَّحَ بِهَا الشَّهَادَاتُ إِذَا تَعَارَضَتْ.

وَأَمَّا الْأَوْزَاعِيُّ، فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ بِقَوْلِهِمْ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى عَدَدِهِمْ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الاجتهاد في الزيادة، والنقصان.

ولأن لَمَّا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ، وَعَلَى قَبُولِ الْعَدْلِ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ، دَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ.

وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ بِالشَّرْعِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَدِيَةِ الْحُرِّ، وَمَا تَقَدَّرَ بِالِاجْتِهَادِ، اخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، كَقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَبِهِمَا فَرَّقْنَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ بَيْنَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَنُقْصَانِهِ، لِعَدَمِ النَّصِّ فِي عَدَدِهِ وَسَوَّيْنَا فِي الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ، بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، لِوُرُودِ النَّصِّ فِي عَدَدِهِ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ.

وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ أَوْهَى، لِأَنَّه لَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ بِشَهَادَةِ عَشْرَةٍ، ثُمَّ ثَبَتَ قَضَاؤُهُ بِشَاهِدَيْنِ قَضَى بِهِمَا عَلَى شَهَادَةِ الْعَشْرَةِ، وَلَمْ يُقَسَّطِ الْقَضَاءُ عَلَى الْعَدَدِ كَذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَهُوَ حُجَّةٌ، عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا.

(فَصْلٌ)

: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ الشَّهَادَةُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ كَذَلِكَ لَا تُرَجَّحُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ، وَالْأُخْرَى شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّاهِدَتَيْنِ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِذَا تَعَارَضَ شَاهِدَانِ وَشَاهِدٌ وَيَمِينٌ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَقُومُ عَلَى الشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ، لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنَّ التُّهْمَةَ مُتَوَجِّهَةٌ فِي الْيَمِينِ، وَغَيْرُ مُتَوَجِّهَةٍ فِي الشَّهَادَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>