حُكْمُهَا بِالرَّائِحَةِ، وَهِيَ فَرْعٌ مَعَ عَدَمِ الْجِسْمِ، وَهُوَ أَصْلٌ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ شَمَّ الْبَنَفْسَجَ بَعْدَ انْتِقَالِ رَائِحَتِهِ إِلَى الدُّهْنِ حَنِثَ بِهِ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا يَعْدَمُ بَقَايَا رَائِحَتِهِ مِنْ بَقَايَا شَمِّهِ.
وَلَوْ شَمَّ عُصَارَةَ الْوَرْدِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ مَائِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ، لِأَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ، وَمَاؤُهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ، فَخَالَفَ بِهَذَيْنِ حَالَ الْبَنَفْسَجِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ، وَكَانَ وَرَقُ الْوَرْدِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ كَالْبَنَفْسَجِ بَعْدَ التَّرْبِيَةِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ بِهِمَا، مَا كَانَتْ رُطُوبَتُهُمَا بَاقِيَةً. فَإِنْ يَبِسَا كَانَ فِي الْحِنْثِ بِهِمَا بَعْدِ يُبْسِهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ تَمْرًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ لِبَقَاءِ اسْمِهِ وَجِسْمِهِ. وَخَالَفَ أَكْلُ التَّمْرِ عَنِ الرُّطَبِ، لِزَوَالِ اسْمِ الرُّطَبِ عَنْهُ، وَبَقَاءِ اسْمِ الْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ عَلَى مَا يَبِسَ مِنْهُ. وَلِتَعْلِيلِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
كَانَ مَنْ حَنِثَ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ، فَأَكَلَهُ تَمْرًا عَلَى وَجْهَيْنِ:
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشَمُّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ، فَمَرَّ بِهِمَا فِي السُّوقِ، فَشَمَّ رَائِحَتَهُمَا، فَإِنْ حَمَلَ النَّسِيمُ الرَّائِحَةَ حَتَّى شَمَّهَا لَمْ يَحْنَثْ.
وَإِنِ اجْتَذَبَ الرَّائِحَةَ بِخَيَاشِيمِهِ حَتَّى شَمَّهَا حَنِثَ، لِأَنَّ شَمَّهَا بِهُبُوبِ النَّسِيمِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَشَمَّهَا بِاجْتِذَابِ خَيَاشِيمِهِ مِنْ فِعْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ مَرَّ الْمُحْرِمُ بِسُوقِ الْعَطَّارِينَ، فَشَمَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ لَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي الْحَالَيْنِ؟ فَهَلَّا كَانَ الْحَالِفُ كَذَلِكَ.
قِيلَ: لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، دُونَ الرَّائِحَةِ، وَالْيَمِينُ مَنَعَتْ هَذَا مِنْ شَمِّ الرَّائِحَةِ، فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أعلم.
[(مسألة:)]
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا وَلَا شَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اللَّحْمُ وَالشَّحْمُ، فَيَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا وجه اجْتِمَاعِهِمَا:
فَأَحَدُهُمَا: إنَّ الْحَيَوَانَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُهُمَا فِي التَّزْكِيَةِ وَالِاسْتِبَاحَةِ.
وَالثَّانِي: إنَّ الشَّحْمَ حَادِثٌ عَنِ اللَّحْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّحْمُ حَادِثًا عَنِ الشَّحْمِ، فَالشَّحْمُ مَا حَوْلَهُ اللَّحْمُ، وَاللَّحْمُ مَا تركب على العظم.