وَالْإِقْرَارُ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِهِ الْحُكْمَ، لِأَنَّه يَصِيرُ إِقْرَارُهُ إِلْزَامًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُوجِبٌ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِهِ الْحُكْمُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَلْزَمُ الشُّهُودَ بِرُجُوعِهِمْ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْحَقِّ الْمُسْتَوْفَى، وَيَنْقَسِمُ إلى ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يَخْتَصُّ بِالْأَبْدَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِتْلَافًا يُخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فيما اختص بالأبدان.
فهل قَتْلُ نَفْسٍ أَوْ قَطْعُ طَرَفٍ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فَقُتِلَ، أَوْ قَطَعَ فَقُطِعَ ثُمَّ رَجَعُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ أَوْ قُطِعَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُمْ بِرُجُوعِهِمْ إِذَا عَمَدُوا:
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِمُ الْقَوَدَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِمْ وَلَا دِيَةَ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حنيفة عَلَى سُقُوطِ الْقَوَدِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ أَفْضَى إلى القتل موجب أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الْغُرْمُ دُونَ الْقَوَدِ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى سُقُوطِ الدِّيَةِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ اقْتَرَنَ بِهِ مُبَاشَرَةً الْحَاكِمُ، فَلَمَّا سَقَطَتِ الدِّيَةُ عَنِ الْحَاكِمِ بِالْمُبَاشَرَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنِ الشُّهُودِ بِالسَّبَبِ، لِأَنَّ السَّبَبَ سَقَطَ بِالْمُبَاشَرَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي قَضِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ عَنْ إِمَامَيْنِ مِنْهُمْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ.
إِحْدَاهُمَا: عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ بِالْقَتْلِ وَقِيلَ بِالْقَطْعِ فَاقْتَصَّ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ وَقَالَا: أَخْطَأْنَا الْأَوَّلَ وَهَذَا هُوَ الْقَاتِلُ أَوِ الْقَاطِعُ. فَقَالَ: لَوْ عَلِمَتْ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَأَقَدْتُكُمَا.
وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ: " وَهِيَ أَثْبَتُ " رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلَيْنِ شهدا عند علي عليه السلام عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ أَتَيَاهُ بَعْدَ بَرْجَلٍ آخَرَ وَقَالَا: أَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ وَهَذَا هُوَ السَّارِقُ، فَأُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ ضَمَّنَهُمَا دِيَةَ