وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْقَصْدَ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحِنْثِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ، مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ ذِي قَصْدٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ فِي فِعْلِهِ مُعْتَبَرًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ ذِي قَصْدٍ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ فِي فِعْلِهِ مُعْتَبَرًا.
وَظَاهِرُ كلام الشافعي ها هنا، أَشْبَهُ بِمَا قَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ حلف لا يأخذ مَالَكَ عَلَيَّ، فَأَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ حنث، ولو قال: لا أعطيك لم يحنث، فَحَنَّثَهُ مَعَ فَقْدِ الْقَصْدِ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُحَنِّثْهُ مَعَ فَقْدِ الْقَصْدِ مِنَ الْحَالِفِ، وَلَوِ اسْتَوَى الْقَوْلَانِ فِيهِمَا لَسُّوِّيَ فِي الْحِنْثِ بَيْنَهُمَا.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْليْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى صَاحِبِ دَيْنٍ عَلَيْهِ، أَنَّكَ لَا تَأْخُذُ مَالَكَ عَلَيَّ، فَصَارَ الْمَالُ إِلَيْهِ، فَلَهُ فِيهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مُخْتَارًا لِأَخْذِهِ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ سَوَاءٌ دَفَعَهُ الْحَالِفُ مُخْتَارًا أَوْ مَكْرَهًا أَوْ أَخَذَ الْمَالَ بِنَفْسِهِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِالْأَخْذِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهَكَذَا لَوْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ مِنْ مُتَطَوِّعٍ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ حَنِثَ، بِوُجُودِ الْأَخْذِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ قَالَ: لَا تَأْخُذُ مِنِّي مَالَكَ عَلَيَّ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَأْخُذَهُ وَكِيلُهُ فَلَا حِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ وَكِيلُهُ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْحِنْثِ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَكِيلُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَرَضًا أَوْ حَوَالَةً، فَلَا حِنْثَ عليه أيضاً؛ لأنه قد بدل الْمَالَ وَلَمْ يَأْخُذْ عَيْنَ الْمَالِ، فَلَمْ تُوجَدْ صِفَةُ الْحِنْثِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ الْمَالَ، وَيَضَعَهُ فِي حِرْزِ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَوْ فِي حِجْرِهِ فَلَا حِنْثَ أَيْضًا، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْمَحْلُوفُ أَخْذَ ذَلِكَ مِنْ حِرْزِهِ أَوْ حِجْرِهِ، فَيَحْنَثُ الْحَالِفُ حِينَئِذٍ لِوُجُودِ الْآخذِ الْآنَ.
وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُخَوِّفَهُ السُّلْطَانُ فَيَأْخُذَ الْمَالَ مُكْرَهًا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ هَلْ يَكُونُ حَنِثَ الْحَالِفُ عَلَى قَوْلَيْنِ، تَسْوِيَةٌ بَيْنَ عَدَمِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ عِلْمِهِ مِنَ الْحَالِفِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ يَحْنَثُ الْحَالِفُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْقَصْدَ لَا يُرَاعَى مِنْ غَيْرِ الْحَالِفِ، وَقَدْ وُجِدَ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْحِنْثُ.