قال الماوردي: وهذا كما قال. إذا غصب أَرْضًا وَحَفَرَ فِيهَا بِئْرًا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِحَفْرِهَا وَعَلَيْهِ سَدُّهَا وَضَمَانُ مَا تَلِفَ فِيهَا ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَاصِبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى سَدِّهَا لِيَبْرَأَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَسْقُطُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَرْضِ بَعْدَ سَدِّهَا أَرْشٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَرْشٌ كَانَ عليه غرمه مع الأجرة. والحال الثاني: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَرْكِهَا فَذَاكَ لَهُمَا، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ مَا سَقَطَ فِيهَا لِتَعَدِّيهِ بِحَفْرِهَا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمُؤْنَةِ السَّدِّ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَتَى شَاءَ بِالسَّدِّ.
والحال الثالث: أَنْ يَدْعُوَ رَبُّ الْأَرْضِ إِلَى سَدِّهَا وَيَأْبَى الْغَاصِبُ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يُجْبَرُ عَلَى سَدِّهَا إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْعُرُوقُ أَرْبَعَةٌ عِرْقَانِ ظَاهِرَانِ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ، وَعِرْقَانِ بَاطِنَانِ الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قلنا في قلع الغرس والبناء.
والحال الرابع: أَنْ يَدْعُوَ الْغَاصِبُ إِلَى سَدِّهَا وَيَأْبَى رَبُّهَا فَإِنْ لَمْ يُبَرِّئْهُ رَبُّهَا مِنْ ضَمَانِ مَا تَلِفَ فِيهَا فَلَهُ سَدُّهَا لِيَسْتَفِيدَ بِهِ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَنْهُ وَإِنْ أَبْرَأَهُ بِهَا مِنَ الضَّمَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْغَاصِبَ أَنْ يَسُدَّهَا لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ يَجِبُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِبْرَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَاصِبَ يُمْنَعُ مِنْ سَدِّهَا لِأَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ يَصِيرُ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَيَرْتَفِعُ التَّعَدِّي وَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا إِذَا دَفَنَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مَيِّتًا أخذ الغاصب ينبشه مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لأن دفته فِيهَا عُدْوَانٌ يَأْثَمُ بِهِ الدَّافِنُ ثُمَّ إِذَا نَبَشَ ضَمِنَ أَرْشَ نَقْصِهَا إِنْ نَقَصَتْ، فَلَوْ قَالَ مَالِكُ الْأَرْضِ أَنَا أُقِرُّ الْمَيِّتَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ إِنْ ضَمِنَ لِي نَقْصَ الْأَرْضِ بِالدَّفْنِ فِيهَا فَفِي إِجْبَارِ الْغَاصِبِ عَلَى بَذْلِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِهِ حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ الْمُتَعَدِّي هُوَ بِدَفْنِهِ فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَدْفُونٌ بِغَيْرِ حَقٍّ.
[مسألة]
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ دَارًا كَانَ لَهُ نَزْعُ التَّزْوِيقِ حَتَّى يَرُدَّ ذَلِكَ بِحَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ دَارًا. فَكَانَ بعض المتقدين مِنْهُمْ يَرْوِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَّقَ بِالرَّاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الرِّوَاقِ وَيُجْعَلُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّقَ بِالزَّايِ مُعْجَمَةً