وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَقًّا غَائِبًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ " فَجَعَلَ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى الشَّهَادَةِ دُونَ الْكِتَابِ.
وَلِأَنَّ نَقْلَ مَا غَابَ عَنِ الْقَاضِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَطِّ قِيَاسًا عَلَى خُطُوطِ الشُّهُودِ إِذَا كَتَبُوا إِلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا كَذَلِكَ كُتُبُ الْقُضَاةِ.
وَلِأَنَّ الْخُطُوطَ تَشْتَبِهُ، وَالتَّزْوِيرَ عَلَى أَمْثَالِهَا مُمْكِنٌ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَعَ إِمْكَانِ مَا هُوَ أَحْوَطُ مِنْهَا، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْأَصْوَاتُ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى شَهَادَةِ الْبَصِيرِ لِانْتِفَاءِ الِاشْتِبَاهِ عَنْهُ.
وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَقْوَى لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَضْعَفِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُودِ، لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الشَّاهِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ المخبر.
فأما الجواب عن كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَرِدُ مَعَ رُسُلٍ يَشْهَدُونَ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَخْبَارِ الَّتِي يَخِفَّ حُكْمُهَا لِعُمُومِهَا فِي الْتِزَامِهَا وَالشَّهَادَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ تَغْلِيظًا لِالْتِزَامِهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَعْوَى الِاسْتِفَاضَةِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ ثُمَّ هِيَ اسْتِفَاضَةُ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ وَلَيْسَ باستفاضة اعتقاد عام.
[(فصل: صحة الكتب ولزوم الحكم بها) .]
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُتُبَ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ لَا تُقْبَلُ بِالْخُطُوطِ حَتَّى يَشْهَدَ بِهَا عُدُولُ الشُّهُودِ فَالْكَلَامُ فِي صِحَّتِهَا وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ.
وَالثَّانِي: فِيمَنْ يُكَاتِبُهُ الْقَاضِي بِحُكْمِهِ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَجِبُ بِهِ قَبُولُ كُتُبِهِ.
وَالرَّابِعُ: فِيمَا يُمْضِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ حُكْمِهِ.
(مَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ) .
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يَكْتُبُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ أَحْكَامِهِ فَأَحْكَامُهُ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بِحَقٍّ حَاضِرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَحْكُمَ لِحَاضِرٍ عَلَى حَاضِرٍ بحق غائب.