تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ لِأَجَلِ الدَّافَّةِ ثُمَّ عَلَى إِبَاحَةِ الِادِّخَارِ بَعْدَ الدَّافَّةِ، وَالدَّافَّةُ النَّازِلَةُ يُقَالُ: دَفَّ الْقَوْمُ مَوْضِعَ كَذَا إِذَا نَزَلُوا فِيهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي دَفَّ الْبَادِيَةُ إِلَيْهَا وَفِي غَيْرِهَا حُرِّمَ بِهِ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتِ الدَّافَّةُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ وَلَمْ تَكُنْ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ ثُمَّ وَرَدَتِ الْإِبَاحَةُ بَعْدَهَا نَسْخًا لِلتَّحْرِيمِ، فَعَمِلَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِالنَّسْخِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَنْعِ مِنِ ادِّخَارِهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَلَمْ يَحْكُمْ بِالنَّسْخِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ.
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ قَالَ: " كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا " فَعَلَى هَذَا إِذَا دَفَّ قَوْمٌ إِلَى بَلَدٍ مِنْ فَاقَةٍ لَمْ يُحَرَّمِ ادِّخَارُهُمْ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ لِاسْتِقْرَارِ النَّسْخِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ خَاصٍّ لِمُعَيَّنٍ حَادِثٍ اخْتَصَّ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهِمْ لنزول الدافة عليهم، وكانت الدافة علة لتحريم ثُمَّ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ بِارْتِفَاعِ مُوجِبِهِ، وَكَانَتْ إِبَاحَةُ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ وَلَمْ تَكُنْ نَسْخًا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا حَدَثَ مِثْلُهُ فِي زماننا، قذف ناس إلى لفاقة، فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى أَهْلِهِ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِهِمْ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ كَمَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ بالمدينة في عهد الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ لوجود علة التحريم كما حرم عليهم بالمدينة في عهد الرسول اللَّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحَرَّمُ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالدَّافَّةِ كَانَ لِزَمَانٍ عَلَى صِفَةٍ فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ مَسْلَكِ الضَّحَايَا فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ الْأَكْلِ وَالِادِّخَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ اشْتَمَلَ حُكْمُهَا عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مَقَادِيرِهَا، فَلَيْسَ تَتَقَدَّرُ فِي الْجَوَازِ وَإِنَّمَا تَتَقَدَّرُ فِي الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ يَسِيرًا مِنْهَا وَتَصَدَّقَ بِبَاقِيهَا جَازَ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِيَسِيرٍ مِنْهَا وَأَكَلَ بَاقِيَهَا جَازَ، فَأَمَّا مَقَادِيرُهَا فِي الِاسْتِحْبَابِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - يَأْكُلُ وَيَدَّخِرُ وَيُهْدِي النِّصْفَ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِالنِّصْفِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرِ) {الحج: ٢٨) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute