[الثالث] : أَوِ الْمُعَاوَضَةُ وَهُوَ الْبَيْعُ. وَلَيْسَ مَالُ الصُّلْحِ مَقْصُودًا بِهِ الْبِرُّ وَلَا الصِّلَةُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُعَاوَضَةُ وَالْخَبَرُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُعَاوَضَةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُقِرِّ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُقِرِّ أَنَّ الْعِوَضَ مَأْخُوذٌ عَمَّا ثَبَتَ لَهُ فَصَحَّ. وَفِي الْمُنْكِرِ عَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَعَانِي فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ مُخَالِفًا لِلْبَيْعِ.
فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ مُخَالِفٌ لِلصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بَعْدَ التَّنَازُعِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْبَيْعُ بِخِلَافِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصُّلْحِ الْإِرْفَاقُ وَبِالْبَيْعِ الْمُعَاوَضَةُ.
فَكَانَ افْتِرَاقُهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا مِنْ حَيْثُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْآخِذِ دُونَ الْبَاذِلِ كَالشَّاهِدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالشَّاهِدُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ابْتِيَاعُ مَنْ شَهِدَ بِعِتْقِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ لِبَايِعِهِ. وَإِنْ قَصَدَ مُشْتَرِيهِ اسْتِنْقَاذَهُ مِنْ رِقِّهِ كَمَا أَنَّ قَصْدَ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ اسْتِنْقَاذَهُ مِنْ أَسْرِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الصُّلْحِ مِنَ الْإِنْكَارِ يُفْضِي إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الصُّلْحِ بِكُلِّ حَالٍ فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ قَدْ يُصَالَحُ أَيْضًا إِمَّا لِكَوْنِ الْمُقِرِّ غَاصِبًا بِيَدِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُمَاطِلًا بِحَقِّهِ وَيَرَى أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْضَ الْبَعْضِ بِالصُّلْحِ وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْكُلِّ بِالْغَصْبِ أَوِ الْمَطلِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَجُوزُ فَلَوْ صَالَحَهُ مَعَ إِنْكَارِهِ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا وَلَزِمَ رَدُّ الْعِوَضِ وَلَمْ يَقَعِ الْإِبْرَاءُ حَتَّى لَوْ صَالَحَهُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَدْ أَنْكَرَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي لَزِمَهُ فِي الْحُكْمِ رَدُّ مَا قَبَضَ وَلَمْ يُبْرَأْ مِمَّا بَقِيَ حَتَّى لَوْ أَقَامَ بِالْأَلْفِ بَيِّنَةً عَادِلَةً كَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ بِالصُّلْحِ الْفَاسِدِ لَا يَمْلِكُهُ كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَالْإِبْرَاءُ كَانَ مَقْرُونًا بِمِلْكِ مَا صَالَحَ بِهِ فَلَمَّا لَزِمَهُ رَدُّهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ بَطَلَ إِبْرَاؤُهُ لِعَدَمِ صِفَتِهِ، وَكَمَنْ بَاعَ عَبْدًا بَيْعًا فَاسِدًا فَأَذِنَ لِمُشْتَرِيهِ فِي عِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِهِ لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّ إِذْنَهُ إِنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا بِمِلْكِ الْعِوَضِ فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالْإِذْنِ، فَإِنْ قِيلَ أَفَيَسَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا بُذِلَ لَهُ بِالصُّلْحِ مع الإنكار إذا كان محقا قيل بسعة ذَلِكَ وَيَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ.
(فَصْلٌ)
فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا فَأَنْكَرَهُ ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِنْهَا قَبْلَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ بَرِئَ مِنْهَا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَقْدِ صُلْحٍ كَانَ مُطْلَقًا فَصَحَّ وَإِذَا كَانَ عَنْ عَقْدِ صُلْحٍ كَانَ مُقَيَّدًا