للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عن الفأرة تعق فِي السَّمْنِ وَالْوَدَكِ، فَقَالَ: " إِنْ كَانَ جَامِدًا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعاً، فانتفوا بِهِ، وَلَا تَأْكُلُوهُ ".

وَرَوَى أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ وَالزَّيْتِ، فَقَالَ: " اسْتَصْبِحُوا بِهِ وَلَا تَأْكُلُوهُ ".

وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌّ فِي إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ وَالِاسْتِصْبَاحِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَانَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لِعَيْنِهِ، مَعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.

(فَصْلٌ:)

فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فالمانع تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ وَرَدَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ، وَقِسْمٌ وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَقِسْمٌ مُرْسَلٌ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ.

فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ، فَهُوَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ، فَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ إِسْجَارِ التَّنَانِيرِ بالبعر والسرجين وجميع الأنجاس، وإبقاءه تَحْتَ الْقُدُورِ، وَمِنَ الِاصْطِلَاءِ بِنَارِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ دُخَّانِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ عَنْ نَجَاسَةٍ وَالْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالرَّمَادِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنَ الْتِقَاءِ جِسْمَيْنِ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِنَجَاسَةِ أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ، كَالرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الجوف.

فإن قيل: بطهارته بِنَجَاسَتِهِ، فَفِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ، كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَجَّرَ بِهِ تَنُّورًا لم يلزمه مسحه منه، وجاز الخبر فِيهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ مُمْكِنٌ، فَأَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ.

فَعَلَى هَذَا إِنْ تَدَخَّنَ بِهِ ثوب وجب غسله، ولذا سُجِّرَ بِهِ تَنُّورٌ، وَجَبَ مَسْحُهُ مِنْهُ قَبْلَ الخبز فيه، فإن خبر فِيهِ قَبْلَ مَسْحِهِ نَجُسَ ظَهْرُ الرَّغِيفِ وَكَانَ وَجْهُهُ طَاهِرًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ الرَّغِيفَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَغْسِلَ ظَاهِرَهُ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ وَالْمَرَاكِبُ.

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُطْلَى السُّفُنُ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ وَحُكْمُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ وَالزَّيْتِ النَّجِسِ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِمَا، فَكَانَ سَوَاءً فِي الْمَنْعِ مِنْ إِطْلَاءِ السُّفُنِ بِهِمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>