فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ مَرْدُودٌ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ بِهَا مَرْدُودٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ، أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ؟ بِحَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَانِعِ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ.
فَمَنْ جَعَلَ دَلِيلَ رَدِّهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا، جَعَلَهُ بَاطِلًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ، لَكِنْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُظْهِرَ بُطْلَانَهُ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ ظُهُورِ نُفُوذِهِ.
وَمَنْ جَعَلَ رَدَّهُ قُوَّةُ الِاجْتِهَادِ فِي شَوَاهِدِهِ، جَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ لَا بِنَقْضِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ شَوَاهِدُهُ مَعْلُومَةٌ بِالِاجْتِهَادِ فَصَارَ مَوْقُوفًا عَلَى الْحُكْمِ بِنَقْضِهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّه قَالَ مِنْ بَعْدُ: وَرَدُّ شَهَادَةِ الْعَبْدِ إِنَّمَا هُوَ بِتَأْوِيلٍ.
وَلَيْسَ بِتَحْرِيفِ السِّجِلِّ نَقْضًا لِلْحُكْمِ حَتَّى يَنْقُضَهُ بِالْحُكْمِ قَوْلًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَجِّلَ بِالنَّقْضِ كَمَا أَسْجَلَ بِالْحُكْمِ لِيَكُونَ السِّجِلُّ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلسِّجِلِّ الْأَوَّلِ، كَمَا صَارَ الْحُكْمُ الثَّانِي نَاقِضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْجَلَ الْحُكْمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِسْجَالَ بِالنَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْجَالُ بِهِ أَوْلَى.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " بَلِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَبْيَنُ خَطَأً مِنْهُ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ أَنَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قال {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال {ممن ترضون من الشهداء} وَلَيْسَ الْفَاسِقُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ فَمَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَدُّ شَهَادَةِ العبد إنما هو تأويل وقال في موضع آخر إن طلب الخصم الجرحة أجله بالمصر وما قاربه فإن لم يجيء بِهَا أُنْفِذَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ثُمَ إِنْ جَرَحَهُمْ بَعْدُ لَمْ يُرَدَّ عَنْهُ الْحُكْمُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قِيَاسُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقْبَلَ الشُّهُودَ الْعُدُولَ أَنْهُمَا فَاسِقَانِ كَمَا يَقْبَلُ أَنَّهُمَا عَبْدَانِ وَمُشْرِكَانِ وَيَرُدُّ الْحُكْمَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِالنَّصِّ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ بَانَ لَهُ فِسْقُهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْفِسْقُ طَارِئًا أَمْضَى الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا فَهُوَ عَلَى صِحَّتِهِ وَنَفَاذِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْفِسْقُ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ إِمْضَاءِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، إِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودٌ وَإِنَّ الْفِسْقَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الرِّقِّ، لِأَنَّ خَبَرَ الْعَبْدِ مَقْبُولٌ وَخَبَرُ الْفَاسِقِ مردود.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute