الْأَبْيَاتِ إِلَى آخِرِهَا.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأُعْطِيَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَاحْتَمَلَ إِعْطَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ لَهُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ بِهِ حُسْنَ النِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَنَعَهُ ثُمَّ بَانَ مِنْهُ ضَعْفُ النِّيَّةِ فَتَآلَفَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حُسْنِ نيته لكن خشي نقص الرتبة وحظ الْمَنْزِلَةِ فَأَحَبَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَكْفَائِهِ فَأَعْطَاهُ مَعَ حُسْنِ إِسْلَامِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِشِعْرِهِ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَآلَفَهُمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ، وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: ٦٠] وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أتاه عدي بن حاتم الطائي بثلثمائة بَعِيرٍ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ أَعْطَاهُ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا لِيَتَآلَفَ بِهَا قَوْمَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَ بِهِ فِي زُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَآلَفُوا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَنْ أَنْ يُتَآلَفَ فِيهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا تَآلَفُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ أَحَدًا وَقَدْ رَوَى حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَتَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطِهِ فَقَالَ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩] فَإِنْ قِيلَ: لَا يُعْطَى الْكُفَّارُ فَلَا مَقَالَ وَإِذَا قِيلَ: يُعْطَوْنَ تَآلُفًا لِقُلُوبِهِمْ، فَعَنِ الْمَالِ الَّذِي يُتَآلَفُونَ مِنْهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى سَهْمِهِمْ مِنْهَا، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ مِالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جملتها، ويعطون ذلك من الْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَعْرَابٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرَفٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِإِزَاءِ مُشْرِكِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ، إِمَّا لِفَقْرِهِمْ، وَإِمَّا لِضَعْفِ نِيَّتِهِمْ وَفِي مَسِيرِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَالْتِزَامُ مَالٍ جَزِيلٍ.