وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى اسْتِبَاحَةَ ذَلِكَ: جَازَ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ بَاغِيًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَنْعَقِدُ وِلَايَتُهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَا تُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ مُتَأَوِّلٌ بِشُبْهَةٍ خَرَجَ بِهَا مِنَ الْفِسْقِ.
وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا صَحَّ من الباغي أو يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ، صَحَّ مِنْهُ أَنْ يُنَفِّذَ الْقَضَاءَ، وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَالْعَادِلِ، كَمَا كَانَ فِي التَّقْلِيدِ كَالْعَادِلِ.
فَإِذَا حَكَمَ نُفِّذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَمْ يُرَدَّ مِنْهَا إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ أَحْكَامِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعَدْلِ إِنْ خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ حَكَمَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ نُفِّذَ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَوْ حَكَمَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ فِيمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ قَبْلَ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَهَا: لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ كَانَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي حَالِ الْقَتْلِ نُفِّذَ حُكْمُهُ لِاحْتِمَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَسَقَطَ عَنْهُمُ الضَّمَانُ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قَاضِي الْعَدْلِ كِتَابًا فِي حُكْمٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَظَاهَرَ بِقَبُولِهِ، وَيَتَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ اسْتِهَانَةً بِهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ بَغْيِهِ. فَإِنْ قَبِلَهُ وَحَكَمَ بِهِ جَازَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَلَا يُنَفِّذَ حُكْمَهُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ وَرَدِّ أَحْكَامِهِ.
وَهَكَذَا يَجُوزُ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ كِتَابًا بِحُكْمٍ وَإِنْ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ.
وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَمْنَعُ مِنْهُ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ سَأَلَ عَلِيًّا - رضوان الله عليه - أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَخَذَهُ مُعَاوِيَةُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَانَ يَعْمَلُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ: غَلِطْتُ غَلْطَةً لَا أعذر أَكِيسُ بَعْدَهَا وَاسْتَمرّ.