وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: لَيْسَ بِمَأْجُورٍ عَلَيْهِ وَلَا مَأْثُومٍ فِيهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ".
وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ لِأَجْلِ هَذَا يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَ أَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ مِنْ الِاجْتِهَادِ، مُخْطِئٌ لِلْحُكْمِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا وَاحِدًا. وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ كُلِّفَ الِاجْتِهَادَ الْمُؤَدِّي إِلَى الصَّوَابِ وَلَمْ يُكَلَّفْ الِاجْتِهَادَ الْمُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِنِيَّتِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَبِمَا تَكَلَّفَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نِيَّةُ الْمَرْءِ مِنْ خَيْرٍ مِنْ عَمَلِهِ ".
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نِيَّتَهُ فِي الِاجْتِهَادِ خَيْرٌ مِنْ خَطَئِهِ فِي الِاجْتِهَادِ.
وَالثَّانِي: يَعْنِي أَنَّ نِيَّتَهُ خَيْرٌ مِنْ خَيِّرَاتِ عَمَلِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النِّيَّةَ أَوْسَعُ مِنَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهَا تَسْبِقُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ فَيُعَجِّلُ الثَّوَابَ عَلَيْهَا.
[(فصل: [الاستنباط] )]
وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ: وَهُوَ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُقَدِّمَتَيِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ فَرْعًا لَهُ وَأَصْلًا لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي تِلْوَ الِاجْتِهَادِ فِي الدَّلَائِلِ، وَصِحَّةُ الْقِيَاسِ تَكُونُ بَعْدَ اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي، فَلِذَلِكَ صَارَ الِاسْتِنْبَاطُ فَرْعًا لِلِاجْتِهَادِ وَأَصْلًا لِلْقِيَاسِ.
وَالِاسْتِنْبَاطُ مُخْتَصٌّ بِاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي مِنْ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ الَّذِي اسْتُخْرِجَ مِنْ مَعْدِنِهِ، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبَطُ لِاسْتِنْبَاطِهِمُ الْمَاءَ بِالِاسْتِخْرَاجِ لَهُ مِنْ مَعَادِنِهِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا هِيَ أَسْمَاءٌ وَمَعَانٍ.
فَالْأَسْمَاءُ أَلْفَاظٌ ظَاهِرَةٌ تُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ.
وَالْمَعَانِي عِلَلٌ بَاطِنَةٌ تُعْرَفُ بِالِاسْتِنْبَاطِ.
فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَبِالْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا عَنْهُ، فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِ أَحَقَّ بِالْحُكْمِ مِنْ الِاسْمِ، لِعُمُومِ الْمَعْنَى بِالتَّعَدِّي، وَخُصُوصِ الِاسْمِ بِالْوُقُوفِ.
وَلَئِنْ كَانَتِ العاني تَابِعَةً لِلْأَسْمَاءِ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْدَعَةٌ فِيهَا فَالْأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لمعانيها.