نبي الله مِنْ نِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَمِنْ حُكْمِ الزِّنَا الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرٌ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ التَّفْوِيضُ إِبْرَاءً مِنَ الْمَهْرِ، فَلَا يَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرٌ؟ .
قِيلَ: الْإِبْرَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ مِمَّا وَجَبَ، وَهَذَا مَهْرٌ وَجَبَ بِالدُّخُولِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ بِالْعَقْدِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ يَدَهَا فَقَطَعَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ دِيَتُهَا، وَهُوَ إِبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَهَلَّا إِذَا بَذَلَتْ لَهُ بُضْعَهَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِذْنَهَا بِقَطْعِ الْيَدِ نِيَابَةٌ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهَا أَنْ تَتَوَلَّى قَطْعَ يَدِهَا بِنَفْسِهَا، فَصَارَتْ كَالْقَاطِعَةِ لِيَدِهَا بِنَفْسِهَا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الغزم، وَلَيْسَ الْبُضْعُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الِاسْتِمْتَاعُ بِبُضْعِ نَفْسِهَا فَصَارَ الزَّوْجُ مُسْتَمْتِعًا بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ بِالْإِذْنِ مِنْ مَهْرِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا وَجَبَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ مَهْرُ الزَّانِيَةِ عَلَى الزاني؟ .
قيل: لأن الزنا مغلط بِالْحَدِّ لِيَكُونَ زَاجِرًا عَنْهُ فَغُلِّظَ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، وَلَوْ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ بِالزِّنَا لَدَعَاهَا ذَلِكَ لِفِعْلِ الزِّنَا، فَحُسِمَتْ هَذِهِ الذَّرِيعَةُ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، كما حسمت بوجوب الحد.
[مسألة]
قال الشافعي: " وإن لم يصبها حتى طلقها فلها المتعة وقال في القديم بدلاً من العقدة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْمُفَوَّضَةُ لِبُضْعِهَا إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، لِسُقُوطِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ اتِّفَاقٌ، وَلَهَا الْمُتْعَةُ عِنْدَنَا.
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا مُتْعَةَ لَهَا، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: ٢٤١) . فَلَمَّا جَعَلَهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: ٢٣٦) . دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ دُونَ وُجُوبِهِ.
وَلِأَنَّ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْمُتْعَةُ كَالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مُؤَثِّرٌ فِي سُقُوطِ الْمَالِ دُونَ إِلْزَامِهِ، كَالْمُسَمَّى لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: ٢٣٦) .
إِحْدَاهُنَّ: قَوْلُهُ: " وَمَتِّعُوهُنَّ " وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعِ.