للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خفت أحرازه، وما كثرت قيمته من الجواهر وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ وَمَا تَوَسَّطَتْ قِيمَتُهُ من الحنطة والزيت توسطت أحرازه.

وقال أبو حنيفة: الإحراز لا يختلف باختلاف الأموال، وكان كَانَ حِرْزًا لِأَقَلِّهَا كَانَ حِرْزًا لِأَكْثَرِهَا حَتَّى جعل دكان البقلي حرزاً للجواهر، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ الْعُرْفِ فِيهِ، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ فِي الْعُرْفِ مُحَرَّزَةٌ فِي أخص الْبُيُوتِ بِأَوْثَقِ الْأَبْوَابِ وَأَكْثَرِ الْأَغْلَاقِ، وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ يحرز في الحظائر المرسلة، وشرائح الخشب وَالْبَقْلُ يُحْرَزُ فِي دَكَاكِينِ الْأَسْوَاقِ بِشَرَائِحِ الْقَصَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْعُرْفِ فِيهِ مُعْتَبَرًا.

وَالثَّانِي: أَنَّ التَّفْرِيطَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ أَحْرَزَ أنفس الأموال وأكثرها في أقلها حرزاً وَأَحْقَرِهَا وَتَوَجُّهُ التَّفْرِيطِ إِلَيْهِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِكْمَالِ الحرز، والله أعلم.

[(فصل)]

فإذا ثبت اعتبار العرف فيه فالاحتراز تختلف من خمسة أوجه:

أحدها: اختلاف جِنْسِ الْمَالِ وَنَفَاسَتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

وَالثَّانِي: بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعَ الْأَقْطَارِ كثير الدعار غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا قَلِيلَ الْمَارِّ لَا يَخْتَلِطُ بِأَهْلِهِ غَيْرُهُمْ خَفَّتْ أَحْرَازُهُ.

وَالثَّالِثُ: باختلاف الزمن فإن كان زمان سلم ودعة خَفَّتْ أَحْرَازُهُ، وَإِنْ كَانَ زَمَانَ فِتْنَةٍ وَخَوْفٍ غَلُظَتْ أَحْرَازُهُ.

وَالرَّابِعُ: بِاخْتِلَافِ السُّلْطَانِ، فَإِنْ كَانَ عَادِلًا غَلِيظًا عَلَى أَهْلِ الْفَسَادِ خَفَّتَ أَحْرَازُهُ، وَإِنْ كَانَ جَائِرًا مُهْمَلًا لِأَهْلِ الْفَسَادِ غَلُظَتْ أحرازه.

والخامس: باختلاف الليل والنهار، فيكون الْأَحْرَازُ فِي اللَّيْلِ أَغْلَظَ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَهْلِ الْعَبَثِ والفساد، فلا يمتنع فيه بكثرة الأغلاق وغلق الأبواب حتى يكون لها حارس يحرسها، وهي بالنهار أَخَفُّ لِانْتِشَارِ أَهْلِ الْخَيْرِ فِيهِ، وَمُرَاعَاةِ بَعْضِهِمْ بعضاً، فلا تفتقر إلى حراس، وإذا جَلَسَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فِي دَكَاكِينِهِمْ وَأَمْتِعَتُهُمْ بَارِزَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا وَإِنْ لم يكن في الليل حرزاً.

وجعله ذَلِكَ اعْتِبَارَ شَرْطَيْنِ الْعُرْفُ، وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ.

وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيُّ الْأَحْرَازَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَسَبِ زَمَانِهِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ، فَيَصِيرُ مَا جَعَلَهُ حِرْزًا لَيْسَ بِحِرْزٍ، وَمَا لَمْ يَجْعَلْهُ حِرْزًا يَصِيرُ حِرْزًا؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَبْقَى عَلَى حَالٍ، وربما انتقل من صلاح إلى فساد، ومن فساد إلى صلاح؛ فلذلك تتغير أحوال الأحراز لكثرتها ما يَكُونَ مُعْتَبَرًا مَعَ وُجُودِ أَسْبَابِهِ وَظُهُورِ عُرْفِهِ والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>