وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ جَوَازِ التَّحَرِّي فِي الْقِبْلَةِ وَالْإِنَاءَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَيُفَارِقُ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْيَقِينِ مُتَعَذَّرٌ، وَفِي أَفْعَالِ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ فَجَازَ التَّحَرِّي فِيمَا تَعَذَّرَ الْيَقِينُ فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَتَعَذَّرِ الْيَقِينُ فِيهِ
وَالثَّانِي: أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلَ وَعَلَامَاتٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لِمَا يُقْضَى مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ دَلَالَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ سَجَدَ سجدتي السهو قبل التسليم وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سجد قبل التسليم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جَائِزٌ قَبْلَ السَّلَامِ، وَبَعْدَهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْنُونِ وَالْأَوْلَى فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدِ: أَنَّ الْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: الْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ عَنْ نُقْصَانٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ زِيَادَةٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافُهُ مَعَ مَالِكٍ "، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَا حَكَيْنَاهُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ "
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ
قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا أُخِّرَ فِعْلُهُ عَنْ سَبَبِهِ لِكَيْ يَنُوبَ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْلَى لِتَصِحَّ نِيَابَتُهُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَخْلُ هَذَا السَّهْوُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ سُجُودًا ثَانِيًا، أَوْ لَا يَقْتَضِيَ، فَإِنِ اقْتَضَى سُجُودًا ثَانِيًا لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِ السهو