للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّ الْعَوْدَ مِنْ بَيْنِهَا وَلَا يُحَرِّمُهُ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى حَرَكَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ تَنْفِي الْهَمَّ، وَتُقَوِّي الْهِمَّةَ وَتَزِيدُ فِي النَّشَاطِ.

وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْمَلَاهِي طَرَبًا، وَأَشْغَلُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ تَمَيَّزَ بِهِ الْأَمَاثِلُ عَنِ الْأَرَاذِلِ.

وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَمَا زَادَ بِهِ الْغِنَاءُ طَرَبًا، وَلَمْ يَكُنْ بِانْفِرَادِهِ مُطْرِبًا. كَالْفُسَحِ، وَالْقَضِيبِ. فَيُكْرَهُ مَعَ الْغِنَاءِ لِزِيَادَةِ إِطْرَابِهِ. وَلَا يُكْرَهُ إِذَا انْفَرَدَ لِعَدَمِ إِطْرَابِهِ.

وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَمَا خَرَجَ عَنْ آلَةِ الْإِطْرَابِ. إِمَّا إِلَى إِنْذَارٍ كَالْبُوقِ، وَطَبْلِ الْحَرْبِ. أَوْ لِمَجْمَعٍ وَإِعْلَانٍ كَالدُّفِّ فِي النِّكَاحِ، كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَسَلَامُهُ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ ".

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى النِّكَاحِ عَامٌّ فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ؟ فَعَمَّ بَعْضُهُمْ لِإِطْلَاقِهِ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي لَا يَتَنَاكَرُ أَهْلُهَا فِي الْمَنَاكِحِ. كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا، فِي مِثْلِ زَمَانِنَا، لِأَنَّهُ قَدْ عُدِلَ بِهِ إِلَى السَّخَفِ وَالسَّفَاهَةِ.

فَأَمَّا الشَّبَّابَةُ: فَهِيَ فِي الْأَمْصَارِ مَكْرُوهَةٌ، لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهَا لِلسُّخْفِ وَالسَّفَاهَةِ وَهِيَ فِي الْأَسْفَارِ وَالرُّعَاةِ مُبَاحَةٌ، لِأَنَّهَا تَحُثُّ عَلَى السَّيْرِ وَتَجْمَعُ الْبَهَائِمَ إِذَا سَرَحَتْ.

(فَصْلٌ)

: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَحْكَامُ الْأَغَانِي وَالْمَلَاهِي، فَإِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا فَهِيَ مِنَ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ يُفْتَقَرُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا مَعَ الْإِصْرَارِ.

وَإِنْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهَا، فَهِيَ مِنَ الْخَلَاعَةِ لَا يُفْتَقَرُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا مَعَ الْإِصْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:

أَحَدُهَا: فِيمَنْ بَاشَرَهَا بِنَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: فِيمَنْ يَسْتَعْمِلُهَا لِلَهْوِهِ.

وَالثَّالِثُ: فِيمَنْ يَغْشَى أَهْلَهَا.

فَأَمَّا الْمُبَاشِرُ لَهَا بِنَفْسِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إِلَيْهَا وَمُسَمًّى بِهَا، يُقَالُ إِنَّهُ مُغَنِّي يَأْخُذُ عَلَى غِنَائِهِ أَجْرًا، يَدْعُوهُ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ أَوْ يَغْشَوْنَهُ لِذَلِكَ فِي دَارِهِ، فَهَذَا سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ لِأَخْبَثِ الْمَكَاسِبِ وَنُسِبَ إِلَى أَقْبَحِ الْأَسْمَاءِ.

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُغَنِّيَ لِنَفْسِهِ إِذَا خَلَا في داره باليسر اسْتِرْوَاحًا فَهَذَا مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا خَلَا فِي دَارِهِ يَتَرَنَّمُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>