أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ". فَهَذَا نَصٌّ.
وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ بِفَوَاتِ نَفْسِهِ لَمْ يَحْرُمْ بِحُدُوثِ أَكْلِهِ كَالْمُذَكَّى؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّ مِنْ صَيْدِهِ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَّ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ صَيْدِهِ، ثُمَّ عَادَ، فَأَكَلَ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ صَيْدِهِ، وَأَكَلَ غَيْرُهُ مِنْ صَيْدِهِ لَمْ يَحْرُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ.
وَإِنْ قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنْ أَكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ حرام، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَمَا أَكَلَ مِنْهُ، فَقَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، لَا عَلَى مُرْسِلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ قَتَلَ إِلَّا أَنْ يَأَكُلَ مِنْهُ، فَلَا تَأَكُلْ ". وَهَذَا نَصٌّ.
وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ، وَإِذَا أَكَلَ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، فَحَرُمَ؛ وَلِأَنَّ أَكْلَهُ وَإِنِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نِسْيَانُ التَّعْلِيمِ، فَمُحَرَّمٌ.
وَالثَّانِي: لِغَلَبَةِ الْجُوعِ، فَلَا يُحَرَّمُ.
وَجَبَ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا أَنْ يُعَادَ إِلَى أَصْلِهِ فِي الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَ مُذَكًّى بِمَيْتَةٍ لَمْ يَحِلَّ الِاجْتِهَادُ فِيهِ؛ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ، فَلَمَّا كَانَ مَا أَكَلَهُ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَذَلِكَ بَاقِيهِ، وَمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَرَامٌ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ صَيْدِهِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَلَالٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ جَمِيعُ صَيْدِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِأَكْلِهِ مِنَ الصَّيْدِ الْمُسْتَأْخِرِ؛ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَكْلَ إِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِلتَّعْلِيمِ دَلَّ حُدُوثُهُ مِنْهُ عَلَى تَقَدُّمِهِ فِيهِ، فَصَارَ صَائِدًا لِجَمِيعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ كَالشَّاهِدَيْنِ إِذَا شَهِدَا، وَهُمَا عَدْلَانِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا فَفَسَقَا لَمْ يَحْكُمْ بِهَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى فِسْقِهِمَا؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْفِسْقِ فِيهِمَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ التَّعْلِيمَ يَنْقُلُهُ عَنْ طَبْعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ مَعَ الْآخَرِ دل على أنه كان غيره منتقل مَعَ الْأَوَّلِ، وَصَارَ تَرْكُ أَكْلِهِ فِي الْأَوَّلِ اتِّفَاقًا لَا تَعْلِيمًا.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: ٤) وَقَدْ أَمْسَكَ عَلَى مُرْسِلِهِ بِمَا تَقَدَّمَ فَحَلَّ؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَتْ شُرُوطُ الْإِبَاحَةِ فِيهِ لَمْ يَحْرُمْ تَقَدُّمُهَا في غيره