وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُرِيدَ بِهِ قَذْفَهَا.
وَالثَّالِث: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ حُدَّ لَهَا، وَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا، لِأَنَّ لِعَانَهُ بَيِّنَةٌ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَتْ بَيِّنَةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَصَارَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ وَإِنِ ارْتَفَعَتْ عِفَّتُهَا مَعَ الزَّوْجِ، فَيُحَدُّ لَهَا إِنْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً، وَيُعَزَّرُ لَهَا إِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ أَمَةً، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَنَفَى النَّسَبَ، وَقَضَى أَلَّا تَرْمِيَ وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، فَمَنْ رَمَاهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَمُطْلَقُ جَوَابِهِ فِي قَذْفِهَا وَتَفْصِيلُ هَذَا الْإِطْلَاقِ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ عِنْدِي، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُلَاعَنَةِ، فَإِنْ لَاعَنَتْ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ كَانَتْ عَلَى عِفَّتِهَا مَعَ الْأَجَانِبِ فَيُحَدُّ قَاذِفُهَا، وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ وَحُدَّتْ فِي الزِّنَا، ذَهَبَتْ عِفَّتُهَا، وَلَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهَا، لِأَنَّهُ يَتَنَافَى ثُبُوتُ الْعِفَّةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ كَمَا يَتَنَافَى إِذَا وَجَبَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ قَذْفَ أُمِّهِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَهُ عَنِ الْأَبِ بِلِعَانِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ، فَإِنِ ادَّعَتِ الْأُمُّ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا أَوِ ادَّعَى ذَلِكَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِهَا أُحْلِفَ بِاللَّهِ مَا أَرَادَ قَذْفَهَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَتْ بِاللَّهِ لَقَدْ أَرَادَ قَذْفَهَا أَوْ حَلَفَ وَلَدُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَإِذَا حَلَفَتْ حُدَّ لَهَا حَدُّ الْقَذْفِ، وَإِنْ نَكَلَتْ أَوْ نَكَلَ وَلَدُهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةُ قَذْفٍ فلا حد عليه لأن الكناية إذا تجردت عَنْ نِيَّتِهِ سَقَطَ حُكْمُهَا كَالْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ، فَإِذَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ إِرَادَةَ الْقَذْفِ أُحْلِفَ عَلَى مَا مَضَى.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ مُلَاعَنَةٍ اسْتَحْلَفَهُ أَبُوهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ وَلَدُهُ، فَيَقُولُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ: لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ، فَظَاهِرُهُ الْقَذْفُ، لِأَنَ الِاحْتِمَالَ فِيهِ بَعْدَ الِاسْتِلْحَاقِ أَقَلُّ، فَصَارَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ الْقَذْفَ، فَيُؤْخَذُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَسَاوَى فِيهِ الِاحْتِمَالُ فِيهِ هَذَا مَا لَمْ يَدَّعِ احْتِمَالًا مُمْكِنًا، فَإِنِ ادَّعَاهُ وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ لَمْ تَكُنِ ابْنَ فُلَانٍ حِينَ نَفَاكَ بِلِعَانِهِ وَإِنْ صِرْتَ ابْنًا لَهُ بَعْدَ اسْتِلْحَاقِهِ، فَقَوْلُهُ مُحْتَمَلٌ فَيُقْبَلُ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِاحْتِمَالِ مَا قَالَ، وَإِمْكَانِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ، وَقَالَ: أَرَدْتُ زِنَا الْعَيْنِ أَوِ الْيَدِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. فَهَلَّا كَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَعَ احْتِمَالِهِ؟
قِيلَ: لِأَنَّهُ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَأُخِذَ بِالْحَدِّ وَلَمْ يَنْوِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ تَعْرِيضًا بِقَذْفٍ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَلِذَلِكَ جَازَ مَعَ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْوِيَ.
وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُسْأَلَ، لِأَنَّ لَفْظَهُ كِنَايَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute