فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حُكْمِ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِ سَيِّدِهِ، فَتَكُونُ كِتَابَتُهُ بِحَالِهَا لَا تَبْطُلُ بِاسْتِرْقَاقِ سَيِّدِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَى وَكِيلِ السَّيِّدِ، لِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِهِ بِالِاسْتِرْقَاقِ قَدْ أَبْطَلَ وِكَالَتَهُ، وَيَكُونُ الْحَاكِمُ هُوَ الْمُسْتَأْدِي لَهَا أَوْ مَنْ يَنْدُبُهُ، لِذَلِكَ مِنْ أُمَنَائِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُ اسْتِرْقَاقِهِ مَبْنِيًّا عَلَى حُكْمِ مَوْتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ يُغْنَمْ مَالُهُ كَانَ مَوْرُوثًا عَنْهُ، فَلِذَلِكَ إِذَا اسْتُرِقَّ لَمْ يُغْنَمْ مَالُهُ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا الْمُكَاتَبُ الَّذِي فِيهَا، وَيَكُونُ مَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَحْدُثُ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِهِ مِنْ عِتْقٍ أَوْ مَوْتٍ عَلَى رِقٍّ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ وَمُكَاتَبُهُ مَغْنُومًا، فَفِيهِ إِذَا اسْتُرِقَّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَغْنُومًا، لِأَنَّ الرِّقَّ يُزِيلُ الْمِلْكَ كَالْمَوْتِ، فَاسْتَوَيَا فِي غَنِيمَةِ مَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَالَهُ لَا يُغْنَمُ بِاسْتِرْقَاقِهِ، وَإِنْ غُنِمَ بِمَوْتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ، لِاسْتِحَالَةِ حَيَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَزَوَالَ مِلْكِهِ بِالرِّقِّ يُرْجَى عَوْدُهُ، لِجَوَازِ عِتْقِهِ بَعْدَ رِقِّهِ، فَلَا يُغْنَمُ عَلَيْهِ مَالُهُ بِالرِّقِّ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْ عِتْقِهِ أَوْ مَوْتِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ مِلْكِهِ بَعْدَ رِقِّهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَكُونُ مَغْنُومًا كَانَ مَا يُؤَدِّيهِ الْمُكَاتَبُ فَيْئًا لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ كَانَ وَلَاؤُهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: (وَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ بِسَبَبِهِ) يَعْنِي: أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لأحد من المسلمين بعينه، لأن لاءه لِجَمَاعَتِهِمْ، وَإِنْ عَجَزَ هَذَا الْمُكَاتَبُ وَرَقَّ كَانَ مَمْلُوكًا فِي بَيْتِ الْمَالِ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَمُوتَ سَيِّدُهُ عَلَى رِقِّهِ أَوْ يُعْتَقَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَالَهُ يَكُونُ بَعْدَ حُدُوثِ رِقِّهِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ عِتْقِهِ أَوْ مَوْتِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يُعْتَقُ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَحَالَةٌ يَمُوتُ عَلَى رِقِّهِ، فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَادَ مَالُهُ الْمَوْقُوفُ إِلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ بَاقِيًا عَلَى كِتَابَتِهِ أَدَّاهَا عَتَقَ وَكَانَ وَلَاؤُهُ إِنْ عَتَقَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّاهَا إِلَى الْحَاكِمِ أَخَذَ مِنَ الْحَاكِمِ مَا اسْتَأْدَاهُ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَكَانَ لَهُ وَلَاءُ مُكَاتَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى رِقِّهِ كَانَ مَالُهُ مَغْنُومًا لَا يُرَدُّ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلَا عَلَى وَارِثِهِ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ مُكَاتَبِهِ، فَإِنَّ لَهُ حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَعْجِزَ، وَيَرِقَّ، فَيَكُونَ مَغْنُومًا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُؤَدِّيَ فَيَعْتِقَ فَلَا يَخْلُو حال عِتْقِهِ بِالْأَدَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِ سَيِّدِهِ، فَفِي وَلَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِبَيْتِ الْمَالِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute