وَالثَّانِي: أَنْ مَعَارِيضَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لَا تَكُونُ كَصَرِيحِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، فَكَذَلِكَ مَعَارِيضُ الْقَذْفِ بِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ قَذْفًا بِالزِّنَا لَكَانَ إِقْرَارًا بِالزِّنَا، لِأَنَّ قَوْلَهَا: أَزْنَى مِنِّي يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الزِّنَا وَأَنْ يَكُونَ هَذَا أَبْلَغَ فِي الزِّنَا عَمَلًا، وَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، لِأَنَّ الزَّانِيَ فَاعِلٌ وَالزَّانِيَةَ مُمَكِّنَةٌ، وَمَالِكٌ لَا يَجْعَلُهَا مُقِرَّةً فَلَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا قَاذِفَةً.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهَا: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي كِنَايَةٌ إِذَا كَانَ جَوَابًا، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَا وَطِئَنِي غَيْرُكَ فَإِنْ كُنْتُ زَانِيَةً فَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي لِأَنَّكَ فَاعِلٌ وَأَنَا مُمَكِّنَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ: هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً كَالْجَوَابِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ كِنَايَةً كَالْجَوَابِ، لِأَنَّ أَزْنَى صِفَة فَاسْتَوَى فِي الِابْتِدَاءِ وَالْجَوَابِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا فِي الِابْتِدَاءِ وَكِنَايَةً فِي الْجَوَابِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَوَابِ رَدًّا، وَفِي الِابْتِدَاءِ جَرْحًا، كَمَا يَكُونُ قَوْلُهَا: زَنَيْتُ بِكَ فِي الْجَوَابِ كِنَايَةً، وَفِي الِابْتِدَاءِ صريح، وكذلك هذا.
[(مسألة)]
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَة أَوْ أَزْنَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَة. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَكُنْ قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَذْفًا فَجَعَلَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ فِي زَوْجَتِهِ وَفِي فُلَانَةٍ الْمُشَبّهِ بِهَا، وَتَابَعَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْجَوَابِ.
وَقَالُوا: يُسْأَلُ الزَّوْجُ وَيَنْوِي فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكِ أَزْنَى من فلانة الزانية كان قافذاً لَهَا وَلِفُلَانَةَ وَعَلَيْهِ لَهُمَا حَدَّانِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ، وَلَيْسَتْ فُلَانَةُ زَانِيَةً، لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لَهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ التَّشَبُّهَ تَقْتَضِي تَسَاوِيَهُمَا فِي الصِّفَةِ وَقَدْ نَفَى الزِّنَا عَنْ فُلَانَةَ فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، لِأَنَّ لَفْظَ الْكِنَايَةِ الْمَنَوِيَّ فِيهِ يَسْقُطُ حُكْمُهُ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَهَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَتَابَعَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى شَرْحِهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا فِي زَوْجَتِهِ، وَكِنَايَةً فِي قَذْفِ فُلَانَةَ، أَمَّا كَوْنُهُ قَذْفًا صَرِيحًا لِزَوْجَتِهِ فلانة قَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِلَفْظِ الزِّنَا وَأَدْخَلَ أَلِفَ الْمُبَالَغَةِ زِيَادَةً فِي تَأْكِيدِ الْقَذْفِ كَمَا دَخَلَتْ أَلِفُ الْمُبَالَغَةِ فِي أَكْثَرِ مُبَالَغَةٍ فِي التَّعْظِيمِ، فَكَانَتْ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ فِي هَذَا الْقَذْفِ شَرًّا لَمْ تُفِدْهُ خَيْرًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute