اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام: ١١٩) وَالضَّرُورَةُ تَزُولُ بِإِمْسَاكِ الرَّمَقِ، فَدَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَاسِكَ الرَّمَقِ قَبْلَ أَكْلِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ. إِذَا صَارَ بِهَا مُتَمَاسِكَ الرَّمَقِ وَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَيْهَا فِي الْحَالَيْنِ؛ وَلِأَنَّ ارْتِفَاعَ الضَّرُورَةِ مُوجِبٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهَا، كَمَا أَنَّ حُدُوثَ الضَّرُورَةِ مُوجِبٌ لِحُدُوثِ حُكْمِهَا.
وَلَوْ جَازَ أَنْ تَرْتَفِعَ الضَّرُورَةُ، وَلَا يَرْتَفِعَ حُكْمُهَا لجاز أن تحدث، ولا يحدث حكمها.
ودليل القول الثاني: أن الشبع منها حلال قول اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اضْطَرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) {البقرة: ١٧٣) فَعَمَّ الْإِبَاحَةَ بِرَفْعِ الْمَأْثَمِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ سُئِلَ عَنِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ: " مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا " فَعَمَّ إِبَاحَتَهَا؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ، حَلَّ الِاكْتِفَاءُ مِنْهُ، كَالطَّعَامِ طَرْدًا وَالْحَرَامِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى الشِّبَعِ لِحِفْظِ قُوَّتِهِ؛ لِأَنَّ إِمْسَاكَ الرَّمَقِ لَا لُبْثَ لَهُ، وَتَتَعَقَّبُهُ الضَّرُورَةُ بَعْدَهُ إِلَى إِمْسَاكِهِ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ لَا يَجِدُ الْمَيْتَةَ بَعْدَهَا، فَكَانَ الشِّبَعُ أَمْسَكُ لِرَمَقِهِ، وَأَحْفَظُ لِحَيَاتِهِ، وَلَئِنْ كَانَ إِمْسَاكُ الرَّمَقِ فِي الِابْتِدَاءِ مُعْتَبَرًا فَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الِانْتِهَاءِ مُعْتَبَرًا بِعُدْمِ الطَّوَلِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا إنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إِلَّا مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ فَأَكْلُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهَا مُبَاحٌ لَهُ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسُكُمْ} (النساء: ٢٩) فَإِنْ تَرَكَ أَكْلَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ، وَإِنْ أَكَلَ مَا زَادَ عَلَى إِمْسَاكِ الرَّمَقِ كَانَ آثِمًا، وَمَا أَكَلَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ حَرَامٌ.
وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ كَانَ أَكْلُ مَا أَمْسَكَ الرَّمَقَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَكَانَ أَكْلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ إِلَى الشِّبَعِ مُبَاحًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَصٌّ بِمَا أَحْيَا النَّفْسَ، وَهُوَ إِمْسَاكُ الرَّمَقِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ وَحِفْظِ الْقُوَّةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَكْلُ مَا زَادَ عَلَى حَدِّ الشِّبَعِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَلَا حَاجَةٌ.
[(فصل:)]
حكم العطشان إذا خاف التلف
وَهَكَذَا حُكْمُ الْعَطْشَانِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ وَوَجَدَ مَاءً نَجِسًا أَوْ بَوْلًا حَلَّ لَهُ الشُّرْبُ منه؛ لأمسك رَمَقَهُ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَوِيَ مِنْهُ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي الْمَيْتَةِ، فَإِنْ وَجَدَ بَوْلًا وَمَاءً نَجِسًا، كَانَ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ أَوْلَى مِنْ شُرْبِ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ طَارِئَةٌ بِالْمُخَالَطَةِ، وَنَجَاسَةَ الْبَوْلِ لِذَاتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُتَدَاوَى بِالْبَوْلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَوَاءً طَاهِرًا، قَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " للقرنين أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَأَبْوَالِهَا بِالْمَدِينَةِ لَمَّا اجْتَوَوْهَا " وَهَكَذَا يُحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لُحُومِ الْمَيْتَةِ لِلتَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ له دواء سواء،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute