الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُ فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ لَا نَقْلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا سُئِلَ نَقْلَ الحق إلى عين يعطها بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ وَكَذَا لَوْ سُئِلَ نَقْلَهُ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْمُحْتَالُ فَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الَّذِي نَقَلَهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى وَرِضَاهُ بِنَقْلِ الْحَقِّ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَلَيْسَ قَبُولُهَا وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ قَبُولُهَا إِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ وَاجِبٌ عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ ". وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدًا وَمَقَالًا " فَكَانَ عَامًّا.
وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الَّتِي فِي الذِّمَمِ قَدْ تَنْتَقِلُ تَارَةً إِلَى ذِمَّةٍ بِالْحَوَالَةِ، وَتَارَةً إِلَى عَيْنٍ بِالْمُعَاوَضَةِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ نَقْلَهُ إِلَى الْعَيْنِ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، فَنَقْلُهُ إِلَى الذِّمَّةِ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَ إِلَّا بِالتَّرَاضِي، لِأَنَّهُ بِنَقْلِهِ إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى قَدْ وَصَلَ إِلَى حَقِّهِ وَبِنَقْلِهِ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى لَمْ يَصِلْ إِلَى حَقِّهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً سِلْمًا وَتَارَةً دَيْنًا فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي السِّلْمِ، لَمْ يَلْزَمْ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي الدَّيْنِ أَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ حَظْرٍ وَهُوَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَنِ انْتَقَلَ الْحَقُّ بِالْحَوَالَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّتِهِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ رِضَاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، بَلْ تَتِمُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ سَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَرْضَ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ الْحَوَالَةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَرْضَ بِهَا لَمْ تَصِحَّ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَنْ كَانَ وَجُودُهُ فِي الْحَوَالَةِ شَرْطًا كَانَ رِضَاهُ فِيهَا شَرْطًا كَالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ.
وَلِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ أَصْلًا وَبِالرَّهْنِ فَرْعًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُوَلّى الرَّهْنَ غَيْرُهُ فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُوَلّى الذِّمَّةَ غَيْرُهُ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَسْهَلَ اقْتِضَاءً وَأَسْهَلَ مُعَامَلَةً وَأَسْمَحَ قَبْضًا، فَلَا يَرْضَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِمُعَامَلَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ بِخِلَافِ مُعَامَلَتِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ بَقَاءُ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِهِ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، مَمْلُوكُ الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي نَقْلِ الْمِلْكِ، كبيع العبد المملوك، ولأن بالحوالة يزول ملكه عَنِ الدَّيْنِ كَالْإِبْرَاءِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رِضَا الْمُبَرَّأِ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ، لَمْ يَكُنْ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَلِأَنَّ مَالِكَ الدَّيْنِ مُخَيَّرٌ فِي اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، كَالْوَكِيلِ وَكَذَلِكَ بِالْمُحْتَالِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute