[(مسألة)]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ قَذَفْتُكِ وَعَقْلِي ذَاهِبٌ فَهُوَ قَاذِفٌ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُصِيبُهُ فَيُصَدَّقُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا قَالَ: قَذَفْتُكِ وَعَقْلِي ذَاهِبٌ، مِنْ أَنْ يُعْلَمَ ذَهَابُ عَقْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ حَالٌ يَذْهَبُ فِيهَا عَقْلُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَهَابِ عَقْلِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الصِّحَّةُ حَتَّى يُعْلَمَ مَا عَدَاهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ كَوْنُهُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُوَ الْآنَ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَرَادَ إِحْلَافَ الْمَقْذُوفِ عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ عِنْدَ قَذْفِهِ كَانَ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْقَاذِفِ، فَإِنْ عُلِمَ صِحَّةُ عَقْلِه لَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِصِحَّةِ عَقْلِهِ مِنْ قَبْلُ كَانَ لَهُ إِحْلَافُ الْمَقْذُوفِ بِأَنَّ الْقَاذِفَ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَحِيحَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِي حَقِّهِ صِحَّةُ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، وَإِنْ نَكِلَ الْمَقْذُوفُ عَنِ الْيَمِينِ، حَلَفَ الْقَاذِفُ أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ سُقُوطِهِ.
(فَصْلٌ)
فَإِنْ عُلِمَ ذَهَابُ عَقْلِهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَذْفِ مِنْ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَقُومَ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ لِمَنِ ادَّعَى الْقَذْفَ، فَقَالَ كَانَ هَذَا الْقَذْفُ مني وأنا ذاهب العقل، أن قَالَ: قَذَفْتُكِ هَذَا الْقَذْفَ وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لَا يَخْتَلِفُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ جَنْبَهُ حِمًى، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ قَذْفٌ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهِ: كُنْتُ عِنْدَ قَذْفِي هَذَا ذَاهِبَ الْعَقْلِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِالْقَذْفِ، أَنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، فَالْحَدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِدَعْوَاهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ ذَاهِبَ الْعَقْلِ عِنْدَ قَذْفِهِ، فَيُحْكَمُ بِهَا إِذَا شَهِدَتْ بِذَهَابِ عَقْلِهِ فِي قَذْفٍ قَذَفَهَا بِهِ وَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَذْفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي صِحَّةٍ، وَالْآخَرُ فِي مَرَضٍ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ، وَلَا يُقِيمَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى ذَهَابِ عَقْلِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: