الْحُلَيْفَةَ قَلَّدَ هَدْيَهُ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ وَلِأَنَّ فِي الْإِشْعَارِ أَغْرَاضًا مُسْتَفَادَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً كَالْوَسْمِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَمَيَّزَ بِالْإِشْعَارِ عَنْ غَيْرِهَا وَلِتُعْرَفَ إِذَا ضَلَّتْ فَيَسُوقُهَا وَاجِدُهَا وَلِيُؤْمَنَ بظهور الإشعار أن يرجع فيها مهدياً وليحتسب اللُّصُوصُ سَرِقَتَهَا وَلِيَتْبَعَهَا الْمَسَاكِينُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا.
وَأَمَّا " نَهْيُهُ عَنِ الْمُثْلَةِ " فَإِنَّمَا كَانَ فِي عَامِ أحد سنة ثلاث حِينَ مَثَّلَتْ قُرَيْشٌ بِعَمِّهِ حَمْزَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْعَرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ مِنَ الْمُثْلَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ فَمَخْصُوصٌ فِيمَا لَا غَرَضَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْإِشْعَارَ يَهْزِلُهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لا يؤثر فيها بها الْوَسْمُ أَشُدُّ عَلَيْهَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ سُنَّةٌ فَالتَّقْلِيدُ هُوَ: أَنْ يُقَلِّدَهَا بِالْحِبَالِ الْمَفْتُولَةِ مِنَ الْمَسَدِ وَغَيْرِهِ وَيُشَدُّ فِيهِ نَعْلٌ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ جِرَابٍ أَوْ قِرْبَةٍ.
وَأَمَّا الْإِشْعَارُ فَهُوَ: أَنْ يَضْرِبَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ بِحَدِيدَةٍ حَتَّى يَدْمَى.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُشْعِرُهَا فِي سَنَامِهَا الْأَيْسَرِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ سَلَتِ الدَّمَ عَنْهَا ثُمَّ قَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَسْتَحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِشْعَارَ عَلَى التَّقْلِيدِ لِحَدِيثِ ابن عباس وتختار أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ عِنْدَ إِشْعَارِهَا وَتَقْلِيدِهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ هَكَذَا فَعَلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ سَنَامٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أشعر موضع سنامها، فأما الغنم تراجع فيقلدها فِي أَعْنَاقِهَا بِنَعْلٍ أَوْ قِطْعَةٍ مِنْ شَنٍّ وَلَا يُشْعِرُهَا؛ لِأَنَّهَا تَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا قَلَّدَ هَدْيَهُ وَأَشْعَرَهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَعْقِدِ الْإِحْرَامَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ قَلَّدَ هَدْيَهُ وَلَبَّى صَارَ مُحْرِمًا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عباسٍ أَنَا قَلَّدْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَى نَحَرَ الْهَدْيَ.