الِاشْتِرَاكُ فِي لَحْمِ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ مِنْ حَيْثُ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا سَبْعَةٌ مِنَ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا، وَيَكُونُ كُلُّ سُبْعٍ مِنْهَا ضَحِيَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ فِي قُرَبٍ مُتَمَاثِلَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ حَقَّهُ لَحْمًا، وَبَعْضُهُمْ يَكُونُ بِهِ مُتَقَرِّبًا، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ أَوْ بُيُوتٍ شَتَّى.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا، وَإِنْ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا إِذَا كَانُوا مِنْ بُيُوتٍ شَتَّى، لِأَنَّ التَّطَوُّعَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْفَرْضِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَشْتَرِكُونَ فِي الْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا مُفْتَرِضِينَ وَمُتَطَوِّعِينَ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ أَوْ بُيُوتٍ شَتَّى وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ سَهْمَهُ لَحْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكُوا، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْقُرَبِ وَاحِدٌ وَمَصْرِفَهَا مَعَ اللَّحْمِ مُخْتَلِفٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكٍ حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: " نَحَرْنَا بِالْحُدَيْبِيَّةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ". وَقَدْ كَانُوا أَشْتَاتًا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، وَلَوِ اتَّفَقَتْ قَبَائِلُهُمْ لَمْ تَتَّفِقْ بُيُوتُهُمْ، وَلَوِ اتَّفَقَتْ لَتَعَذَّرَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ عدد كل بيت سبعة حتى لا يزيدون عليهم، ولا ينقصون مِنْهُمْ، فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الِافْتِرَاضِ وَالِاقْتِرَانِ، وَرَوَى جَابِرٌ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَشْتَرِكَ السَّبْعَةُ فِي بَدَنَةٍ، وَنَحْنُ مُتَمَتِّعُونَ عَامَ الْوَدَاعِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاكِ الْمُفْتَرِضِينَ، لِأَنَّ دَمَ الْمُتَمَتِّعِ فَرْضٌ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مفترضين كَالسُّبْعِ مِنَ الْغَنَمِ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ السَّبْعَةُ إِذَا كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ كَالسُّبْعِ مِنَ الْغَنَمِ.
وَلِأَنَّ سَهْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوِ اخْتَلَفَتْ قُرَبُهُمْ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ سَهْمَهُ عَنْ قِرَانٍ وَبَعْضُهُمْ عَنْ تَمَتُّعٍ، وَبَعْضُهُمْ عَنْ حَلْقٍ، وَبَعْضُهُمْ عَنْ لِبَاسٍ جَازَ كَذَلِكَ إِذَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ سَهْمَهُ لَحْمًا، لِأَنَّ نِيَّةَ غَيْرِ الْمُتَقَرِّبِ لَا تُؤَثِّرُ فِي نِيَّةِ الْمُتَقَرِّبِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ مَصْرِفَ الْقُرْبِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْفَرْضِ غَيْرُ مَصْرِفِ التَّطَوُّعِ وَمَحِلُّ الْهَدْيِ غَيْرُ مَحِلِّ الْأَضَاحِيِّ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَنَحَرَ السَّبْعَةُ الْمُشْتَرِكُونَ بَدَنَةً، فَإِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ وَدَفَعُوا لَحْمَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ لِيَكُونُوا هُمُ الْمُقْتَسِمِينَ لَهَا جَازَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُتَقَرِّبٍ يُرِيدُ سَهْمَهُ لَحْمًا يُقَاسِمُهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ فِي الْقِسْمَةِ: إِنَّهَا إِقْرَارُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ جَازَتِ الْقِسْمَةُ وَكَانَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَاسِمُوهُمْ قَبْلَ دَفْعِ سِهَامِهِمْ إِلَى الْمَسَاكِينِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute