مُخْتَلِفٌ فِي حَدِّهِ وَفِسْقِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُفَسِّقُهُ وَلَا يَحُدُّهُ، وَمَالِكٌ يُفَسِّقُهُ وَيَحُدُّهُ، وَالشَّافِعِيُّ يَحُدُّهُ وَلَا يُفَسِّقُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ إِلَّا قَوْلُ مَنْ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ وَهُمُ الْحُكَّامُ دُونَ الشُّهُودِ.
وَقَدْ حَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ شَاهِدًا عِنْدَ حَاكِمٍ، فَقِيلَ لَهُ لِمَ جَرَحَتْهُ؟ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُهُ يَبُولُ قَائِمًا! قِيلَ: وَلِمَ يصير فاسقا إذا بال قائما؟ قال: ولأنه يَرْشُشُ عَلَى سَاقَيْهِ قِيلَ: أَفَرَأَيْتَهُ يَرْشُشُ عَلَى سَاقَيْهِ حِينَ بَالَ؟ قَالَ: لَا.
فَإِذَا جَازَ أَنْ يُجْرَحَ الشَّاهِدُ بِمِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ بِجَرْحٍ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ، حَتَّى يَصِفَ لَهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مَجْرُوحًا.
وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ فِي الْمَذَاهِبِ يُفَسِّقُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ بِالْمُخَالَفَةِ فَاسِقًا، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ عَمَّا صَارَ بِهِ فَاسِقًا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ، فَقَدْ عَارَضَهُ مَا ذَكَرْنَا فَيَسْقُطَانِ فَيَحْمِلُ السَّتْرَ فِيمَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَالذِّكْرَ فِيمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَصِيرُونَ قَذَفَةً فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ لَا يَصِيرُونَ بِهِ قَذَفَةً وَإِنْ صَارَ الْجِيرَانُ بِهِ قَذَفَةً لَكِنْ لَيْسَ لِأَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِمْ بِالْقَذْفِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ بَعْدَ اسْتِخْبَارِهِمْ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْعِلْمِ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْفِسْقِ فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ الْعِلْمِ بِهِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ وَسَبَبُ فِسْقِهِمْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فوجب أن يسألوا عنه
(فصل: بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ) .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ عَنْ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَيَسْتَوِي سُؤَالُهُ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالتَّعْدِيلِ وَعَنِ الشَّهَادَةِ بِالْجَرْحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّلَ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرَحَ مَنْ لَيْسَ بِمَجْرُوحٍ، فَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ بِالتَّعْدِيلِ إِلَّا مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ وَطَالَتْ خِبْرَتُهُ وَلَا يَسْمَعُهَا مِمَّنْ قَرُبَتْ مُدَّةُ مَعْرِفَتِهِ لِجَوَازِ التَّصَنُّعِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ.
وَيَسْمَعُ الشَّهَادَةَ بِالْجَرْحِ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ وَمِمَّنْ حَدَثَتْ مَعْرِفَتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَرْحَ بِحُدُوثِ فِعْلٍ قَدْ يَكُونُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ كَمَا يَكُونُ فِي بَعِيدِهَا.
فَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِأَسْبَابِ الْجُرْحِ، اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِيهَا فَإِذَا صَارَ بِهَا مَجْرُوحًا