مَقْصُودَ الْجِهَادِ التَّعَرُّضُ لِلشَّهَادَةِ، فَخَالَفَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا يُتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ فِيهَا، فَصَارَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ غَيْرَ مَوْصُوفٍ بِفَرْضِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ وَلَا بِسُقُوطِهِ عَنْهُ لِوُقُوفِهِ عَلَى إِذْنِ رَبِّهِ، فَإِنْ أَذِنَ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ، وَإِذَا جَاهَدَ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ أَمَامَ الصُّفُوفِ وَوَقَفَ فِي وَسَطِهَا أَوْ حَوَاشِيهَا لِيُتَحَفَّظَ الدَّيْنُ بِحِفْظِ نَفْسِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَنْ إِذْنِهِ كَانَ كَالَّذِي مَضَى فِي حُدُوثِ الْأَعْذَارِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وَبِإِذْنِ أَبَوَيْهِ لِشَفَقَتِهِما وَرِقَّتِهِمَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَإِنْ كَانَا عَلَى غَيْرِ دِينِهِ فَإنَمَا يُجَاهِدُ أَهْلَ دِينِهِمَا فَلَا طَاعَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ قد جاهد ابن عتبة بن ربيعة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولست أشك في كراهية أبيه لجهاده مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجاهد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبوه متخلف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ب " أحد " يخذل من أطاعه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ لِلْمُجَاهِدِ أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: ٢٣] فَجَمَعَ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا: أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] . يَعْنِي: حِينَ تَرَى مِنْهُمَا الْأَذَى وَتُمِيطُ عَنْهُمَا الْقَذَى، فَلَا تَضْجَرْ كَمَا كَانَا يُمِيطَانِهِ عَنْك صَغِيرًا مِنْ غَيْرِ ضَجَرٍ، وَفِي هَذَا الْأُفِّ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كُلُّ مَا غَلُظَ مِنَ الْكَلَامِ وَقَبُحَ، قاله مقاتل.
والثاني: أنهما كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّبَرُّمِ وَالضَّجَرِ، خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْأَصْوَاتِ الْمَحْكِيَّةِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أُفٍّ وَتَفٍّ، وَالْأُفُّ فِي اللُّغَةِ وَسَخُ الْأُذُنِ، وَالْتَفُّ وَسَخُ الْأَظْفَارِ، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: ٢٣] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَرُدَّ عَلَيْهِمَا قَوْلًا.
وَالثَّانِي: لَا تُنْكِرْ مِنْهُمَا فعلا، {وقل لهما قولا كريما} فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيِّنًا.
وَالثَّانِي: حَسَنًا، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: ٢٤] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْخُضُوعُ لَهُمَا.
وَالثَّانِي: تَرْكُ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ عُلُوِّ الطَّائِرِ بِجَنَاحِهِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ الْحُنُوُّ وَالشَّفَقَةُ، فَدَلَّ عُمُومُ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِمَا عَلَى أَنْ يُرْجَعَ فِي الْجِهَادِ إِلَيْهِمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute