النَّبِيذِ. وَالْبَعِيدُ أَحْوَجُ إِلَى عُمُومِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَرِيبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْكَثِيرِ فَجَازِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ. بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ السُّكْرَ وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ أَنْ يُحَرِّمَ الْمُسْكِرَ وَإِنْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يُسْكِرُ فَأَغْنَى عَنِ الْمُسْكِرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلالهم، بالترغيب بها فِي الْجَنَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ عرفوا لذتها قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنِ الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ غَيْرُ مُسْكِرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَهَا بِأَنْ لَا غَوْلَ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمَ. أَيْ: لَا تَغْتَالُ عقولهم بالسكر، ولا يأثمون بارتكاب الحظر، والله أعلم.
[(مسألة)]
قال الشافعي: رضي الله عنه " وَفِيهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا شَارِبُ الْخَمْرِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا شَارِبُ النَّبِيذِ فَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ حُدَّ فِي قَوْلِ مَنْ حَرَّمَهُ، وَلَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ مَنْ أَحَلَّهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى تَحْرِيمِهِ فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالْخَمْرِ، وَهُمَا فِي الْحَدِّ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا كَمَا أَنَّ الْحَد فِي الْخَمْرِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سَكِرَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَسْكَرْ، وَإِنْ كَانَ السُّكْرُ أَغْلَظَ مَأْثَمًا، فَهَذَا حُكْمُ الْحَدِّ، فَأَمَّا التَّكْفِيرُ فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ النَّبِيذِ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ.
وَقَدْ مَضَى وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا التَّفْسِيقُ: فَيَفْسُقُ شَارِبُ الْخَمْرِ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَأَمَّا شَاربُ النَّبِيذِ فَيَفْسُقُ فِي كَثِيرهِ الْمُسْكِرِ والتفسيق في قليله معتبر بحال شاربه. فإن تأوله فِي شُرْبِهِ، إِمَّا بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ بِفُتْيَا فَقِيهٍ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَفْسُقْ، وَإِنْ حُدَّ.
وَإِنْ شَرِبَهُ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فُسِّقَ وَحُدَّ، فَاسْتَوَى حَدُّهُ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنِ افْتَرَقَ بِفِسْقِهِ فِيهِمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْسُقُ فِي الْحَالَيْنِ، كَمَا يُحَدُّ فِيهِمَا، ولا تبقى مَعَ وُجُوبِ حَدِّهِ عَدَالَةٌ.