للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذَّرَارِيِّ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليتفقهوا في الدين} فِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لِيَتَفَقَّهَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ، إِمَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جِهَادِهِ، وَإِمَّا مُهَاجَرَةً إِلَيْهِ فِي إِقَامَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ.

وَالثَّانِي: لِيَتَفَقَّهَ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ النُّفُورِ فِي سَرَايَاهُ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وفي المراد بقوله: {وليتفقهوا في الدين} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتَفَقَّهُوا فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، وَتَأْيِيدِهِ لِدِينِهِ وَتَصْدِيقِ وَعْدِهِ وَمُشَاهَدَةِ معجزاته ليقوي إيمانهم، ويخيروا به قومهم إذا رجعوا إليهم. والثاني: يتفقهوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَمَعَالِمِ الشَّرْعِ، وَيَتَحَمَّلُوا عَنِ الرَّسُولِ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَلَاغُ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ فَرَضَ الْجِهَاد عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أو انفروا جميعاً} وفي قوله: {خذوا حذركم} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ. وَالثَّانِي: خُذُوا سِلَاحَكُمْ، وقوله تعالى: (فانفروا ثبات) يعني: فرقاً وعصباً، (أو انفروا جميعاً) أَيْ: بِأَجْمَعِكُمْ. فَخَيَّرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فَرْضَهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْكَافَّةِ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، فَتَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ حِينَ عَيَّنَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْوَجْهَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهِ كَانَ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَعَلَى الْكِفَايَةِ فِي غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ انْقَطَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِنُصْرَتِهِ فَتَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ بَدْرٍ بِالْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً، وَمَا جَاهَدَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ بَدْرٍ، فَتَعَيَّنَ الْفَرْضُ عَلَى مَنِ ابتدىء به، ولم يتعين على من لم يبتدأ بِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَمَّى أَهْلَ الْفَيْءِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ مُهَاجِرِينَ، وَجَعَلَ فَرْضَ الْعَطَاءِ فِيهِمْ وَسَمَّى غَيْرَهُمْ وَإِنْ جَاهَدُوا أَعْرَابًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرِ:

(قَدْ حَسَّهَا اللَّيْلُ بِعُصْلُبِيٍّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّارِيِّ)

(مُهَاجِرًا لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ ... )

(فَصْلٌ)

: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ الْآنَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ الْأَعْيَانِ فَالَّذِي يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ شَيْئَانِ:

أَحَدُهُمَا: كَفُّ الْعَدُوِّ عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَخَطَّفَهَا لِيَنْتَشِرَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا آمِنِينَ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ أَظَلَّ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ وَخَافُوهُ عَلَى بِلَادِهِمْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ

<<  <  ج: ص:  >  >>