أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ لِي بَيِّنَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا لِغَيْبَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَيُسْتَحْلَفُ خَصْمُهُ، ثُمَّ تُحْضَرُ بَيِّنَتُهُ، فَتُسْمَعُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَأَنَا أَطْلُبُ إِحْلَافَ خَصْمِي، فَلَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِحْلَافِهِ، وَلَا مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِقَامَتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى طَلَبِ الْيَمِينِ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ بِهَا، فَيُقِرَّ، وَإِمَّا لِيَحْتَقِبَ بِهَا وِزْرًا.
فَإِذَا لَمْ يُزْجَرْ بِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ جَازَ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ بِبَيِّنَتِهِ، وَيُظْهِرَ بِهَا صِدْقَ الدَّعْوَى، وَكَذِبَ الْإِنْكَارِ، وَحِنْثَ الْيَمِينِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ، وَأَنَا أَطْلُبُ الْيَمِينَ، لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ إِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ، لِأَنَّ فِي إِنْكَارِ الْبَيِّنَةِ حَرَجًا لِمَنْ يَشْهَدُ بِهَا، وَلَا تُسْمَعُ لَهُ بَيِّنَةٌ قَدْ جَحَدَهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تُنْسَى الْبَيِّنَةُ ثُمَّ يَذْكُرُهَا، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلَا يَعْلَمُ بِهَا، ثُمَّ يَعْرِفُهَا، فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ حَرَجٌ، وَلَا تَكْذِيبٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا ثَالِثًا: إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْثَقَ بِإِشْهَادِ الْبَيِّنَةِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهَا.
وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْثَقَ بِهَا وَلِيُّهُ فِي صِغَرِهِ أَوْ وَكِيلُهُ فِي كِبَرِهِ قُبِلَتْ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ فِعْلَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَجْهَلُ فِعْلَ غَيْرِهِ.
وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجْهَلْ فِعْلَ نَفْسِهِ فِي وَقْتِهِ، فَقَدْ يَنْسَاهُ بَعْدَ وَقْتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا إِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ، وَرُدَّتْ عَلَى الْمُدَّعِي، فَنَكَلَ عَنْهَا، وَأَقَامَ شَاهِدًا، لِيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ مَعَ شَاهِدِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ "، وَفِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " لِلْمُزَنِيِّ: لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ، لِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ عَنْهَا فِي الرَّدِّ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِهَا مِنْ بَعْدُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَحَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمُخْتَصِرِ أَنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ،