محاربا ووأخفى عَنْهُمْ أَثَرَهُ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ، وَفَتَحَ مَكَّةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمْسِكَ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عقد بعضهم للهدنة موجب لِأَمَانِ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ أَمْسَكُوا كَانَ نَقْضُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِحَرْبِ جَمِيعِهِمْ إِذَا أَمْسَكُوا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ نَقْضًا لِعَهْدِ جَمِيعِهِمْ، جَازَ أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ بِقِتَالِهِمْ بِإِنْذَارٍ وَغَيْرِ إِنْذَارٍ، كَمَا سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى نَاقِضِ عَهْدِهِ فُجَاءَةً بِغَيْرِ إِنْذَارٍ وَجَازَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا فَيَقْتُلَ رِجَالَهُمْ، وَيَسْبِيَ ذَرَارِيَهُمْ، وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَنِي قُرَيْظَةَ.
وَإِنْ جَعَلْنَاهُ نَقْضًا لِعَهْدِ مَنْ بَاشَرَ، وَلَمْ نَجْعَلْهُ نَقَضًا لِعَهْدِ مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ أَوْ مُخْتَلِطِينَ بِهِمْ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا عَنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ انْحَازُوا عَنْهُ أَجْرَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُكْمَهُ، فَقُوتِلَ النَّاقِضُونَ لِلْعَهْدِ، وقتلوا، وكف عن غير غَيْرِ النَّاقِضِينَ وَأُمِّنُوا، وَإِنِ اخْتَلَطُوا بِهِمْ فِي مَوَاضِعِهِمْ غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ، لَمْ يُجُزْ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَلَا يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا، وَيَقُولَ لَهُمْ: يَتَمَيَّزُ مِنْكُمْ نَاقِضُ الْعَهْدِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضْهُ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا عَمِلَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُونَ عَلَى الْعَهْدِ أَكْثَرَ أَوْ أَظْهَرَ لَمْ ينذروا بالقتال، وقيل لهم: ميزوا عنكم ناقضوا الْعَهْدِ مِنْكُمْ، إِمَّا بِتَسْلِيمِهِمْ إِلَيْنَا، وَإِمَّا بِإِبْعَادِهِمْ عَنْكُمْ.
فَإِذَا فَعَلُوهُ، فَقَدْ تَمَيَّزُوا بِهِ، وَخَرَجُوا مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَأَقَامُوا عَلَى اخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ بَعْدَ الْمُرَاسَلَةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ صَارُوا مُمَاثِلِينَ لَهُمْ، فَصَارَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ نَقْضًا مِنْهُمْ لِلْعَهْدِ، فَجَرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ حُكْمُ النَّقْضِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ أَنْ لَا يُمَايِلُوا عَلَيْنَا عَدُوًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: ٤] الْآيَةَ وَقَدْ ظَاهَرُوهُمْ بِالْمُمَايَلَةِ، فَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِضُونَ لِلْعَهْدِ أَكْثَرَ وَأَظْهَرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَلَا يُقْتَلُوا فِي غِرَّةٍ وَبَيَاتٍ وَحُورِبُوا جَهْرًا، وَلَمْ يَجِبِ الْكَفُّ عَنْ قِتَالِهِمْ؛ لِأَجْلِ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأُسَرَاءِ فِيهِمْ، فَإِنْ أُسِرُوا لَمْ يَجُزْ قَتْلُ الْأَسْرَى إِلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْهُمْ: هَلْ هُمْ مِمَّنْ نَقَضَ الْعَهْدَ أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُوصَلْ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُمْ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي ذَرَارِيهِمْ إِنْ سُبُوا، وَأَمْوَالِهِمْ إِنْ غُنِمَتْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنِ ادَّعَوْا مِنَ الذَّرَارِي وَالْأَمْوَالِ مَا أَنْكَرَهُ الْغَانِمُونَ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِيهِ إِلَّا ببينة فشهد لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَحْلِفُ الْغَانِمُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، وَكَانَ مَغْنُومًا مع عدم البينة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute