وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ عَلَى اخْتِلَافِ نَصَّيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ مُنْتَقِلًا عَنِ الْحُرِّ إِلَى وَارِثِهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ. وَلَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْمُكَاتَبِ إِلَى سَيِّدِهِ، وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحُرَّ يَنْتَقِلُ مَالُهُ إِلَى وَارِثِهِ بِالْإِرْثِ وَحُدُوثِ الْمَوْتِ، فَقَامَ فِي الْخِيَارِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ، كَمَا قَامَ مَقَامَهُ فِي غَيْرِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مَالُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بِالْمِلْكِ الْمُتَقَدِّمِ، لَا بِالْإِرْثِ، فَلَمَّا بَطَلَ خِيَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْمَوْتِ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى سَيِّدِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ، كَالْوَكِيلِ إِذَا مَاتَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْتَقِلِ الْخِيَارُ إِلَى مُوَكِّلِهِ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا جُنَّ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَا يَنْقَطِعُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْجُنُونِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِهِ، وَسَوَاءٌ فَارَقَ الْمَجْنُونُ الْمَجْلِسَ أَوْ قَامَ فِيهِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنُونِ لَا حُكْمَ لَهُ، فَلَمْ يَنْقَطِعِ الْخِيَارُ بِفِرَاقِهِ. وَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ عَنْهُ إِلَى وَلِيِّهِ، كَمَا يَنْتَقِلُ خِيَارُ الْمَيِّتِ إِلَى وَارِثِهِ. وَيَكُونُ الْخِيَارُ بَاقِيًا لِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ وَوَارِثِ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَعْلَمَا بِالْحَالِ وَلَمْ يُفَارِقِ الْعَاقِدُ الْآخَرُ الْمَكَانَ.
فَإِذَا عَلِمَ وَلِيُّ الْمَجْنُونِ وَوَارِثُ الْمَيِّتِ، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهِمَا الَّذِي عَلِمَا فِيهِ مَا لَمْ يُفَارِقَاهُ. فَإِنْ فَارَقَا الْمَجْلِسَ الَّذِي عَلِمَا فِيهِ، أَوْ فَارَقَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ الْمَكَانَ الَّذِي عُقِدَ الْبَيْعُ فِيهِ، فَقَدِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ.
فَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: خِيَارُ الثَّلَاثِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَلَا يُورَثُ.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ خِيَارٌ يَمْنَعُ مِنَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الْقَبُولِ. قَالَ: وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْمَبِيعِ يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ فِي الثَّمَنِ يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فَمُنِعَ مِنْ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ فِيهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجَلَ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ بَاطِلًا بِالْمَوْتِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا:
أَنَّهُ مَعْنًى يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ كَالْأَجَلِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، لَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْوَرَثَةُ إِنَّمَا يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي الْخِيَارِ حَقٌّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكَّلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ مَا ثَبَتَ لِوَكِيلِهِ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ. وَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute