(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَحْكَامُ السِّحْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ إِخْفَاءُ الْخِدَاعِ وَتَدْلِيسُ الْأَبَاطِيلِ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ.
(أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ)
أَيْ نُخْدَعُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا نُسَمِّي السِّحْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعَضَهَ وَالْعَضَهُ - شِدَّةُ الْبُهْتِ وَتَمْوِيهُ الْكَذِبِ.
وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ:
(أعوذ بربي من النفاثات ... وَمِنْ عَضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضَهِ)
وَالْكَلَامُ فِي السِّحْرِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ.
وَالثَّانِي: فِي تَأْثِيرِ السِّحْرِ.
وَالثَّالِثُ: فِي حُكْمِ السِّحْرِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِنَ المتكلمين أنه لَهُ حَقِيقَةً وَتَأْثِيرًا وَذَهَبَ مُعْتَزِلَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَغْرِبِيُّ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - إِلَى أَنْ لَا حَقِيقَةَ لِلسِّحْرِ وَلَا تَأْثِيرَ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ كَالشَّعْبَذَةِ لا تحدث في المسحور إلا التوهم وللاستشعار اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنِ وَمُوسَى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنها تسعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: ٦٦، ٦٧] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِيمَا مَثَّلُوهُ بِالْحَيَّاتِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ زِئْبَقًا وَاسْتَقْبَلُوا بِهَا مَطْلِعَ الشَّمْسِ فَلَمَّا حَمِيَ بِهَا سَاحَ وَسَرَى فَسَرَتْ تِلْكَ الْحِبَالُ كَالْحَيَّاتِ السَّارِيَةِ وَمَعْلُومٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ تَخْيِيلٌ بَاطِلٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ لَخَرَقَ الْعَادَاتِ، وَبَطَلَ بِهِ الْمُعْجِزَاتُ وَزَالَتْ دَلَائِلُ النُّبُوَّاتِ وَلَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِأُصُولِ الشَّرَائِعِ وَإِبْطَالُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute