وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا آخَرَ: إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُقَرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِالْإِسْلَامِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْوٌ مِنَ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَخْرِيجِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ فَيَفْسُدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
(فَصْلٌ)
فَإِنِ ارْتَدُّوا قَبْلَ بُلُوغِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِرِدَّتِهِمْ حُكْمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ أَوْلَادُ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ لِإِسْلَامِهِمْ حُكْمٌ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الصَّبِيِّ إِسْلَامٌ وَلَا رِدَّةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ إِسْلَامُ الصَّبِيِّ وَرِدَّتُهُ وَلَا يُقْتَلُ بِهَا.
احْتِجَاجًا: بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فأبواه يهودانه أن يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْ لِسَانِهِ، فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .
فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا أَعْرَبَ لِسَانُهُ عَنْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوِ الرِّدَّةِ صَحِيحًا، وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ، فَصَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَالرِّدَّةُ كَالْبَالِغِ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ) .
وَرَفْعُهُ عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُجْرَى عَلَى اعْتِقَادِهِ حُكْمٌ.
وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ الِاعْتِقَادُ لِإِسْلَامٍ وَلَا رِدَّةٍ كَالْمَجْنُونِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ قَتْلُ الرِّدَّةِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكُونُ رِدَّةً.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ أَنَّ إِعْرَابَ لِسَانِهِ عَنْهُ يَكُونُ بِبُلُوغِهِ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَالِغِ: فَلَا يَصِحُّ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الرِّدَّةِ، كَمَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا في العقود والأحكام.
[(مسألة)]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ وُلِدَ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي الرِّدَّةِ لَمْ يُسْبَ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَمْ يُسْبَوْا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ الرِّدَّةِ.
فَأَمَّا أَوْلَادُهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ: وَهُمُ الْمَوْلُودُونَ لَهُمْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ رِدَّتِهِمْ.
فَإِنْ كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْهِمْ مُسْلِمًا: فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ، وَكَانُوا كَالْمَوْلُودِينَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.