الْأَعْيَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْمَالُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: ٩٧) وَفِيهَا دَلِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْبَيَانِ فَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ، إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَائِهَا شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا، فَلَمَّا ضَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِطَاعَةِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ مُسْتَطِيعٍ، لَا يَجُوزُ دَلَّ عَلَى أَنَّ انْضِمَامَ ذَلِكَ لِفَائِدَةٍ، وَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَأَمَّا الْبَيَانُ، فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ) {آل عمران: ٩٧) قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: زادٌ وَرَاحِلَةٌ فَصَارَ هَذَا بَيَانًا مِنْهُ لِجُمْلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ الرَّجُلُ عَنِ اسْتِطَاعَةِ نَفْسِهِ قِيلَ لَفْظَةُ السُّؤَالِ تَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّهُ قَالَ مَا الِاسْتِطَاعَةُ فَسَأَلَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ أَوْ مَذْكُورٍ وَالْمَذْكُورُ مَا فِي الْآيَةِ، وَالْمَعْهُودُ اسْتِطَاعَةُ كُلِّ النَّاسِ فَسَقَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ اسْتِطَاعَةَ السَّائِلِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " السَّبِيلُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِحُكْمِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: من وجد زاد وَرَاحِلَةً، وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا كَالْجِهَادِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {يَأْتُوكَ رِجَالاً) {الحج: ٩٧) فَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ رِجَالًا، بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ مَعْضُوبًا فِي بَدَنِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَرْكَبٍ لِضَعْفِهِ وَزَمَانَتِهِ فَفَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فَرْضُهُ غَيْرَ مَرْجُوٍّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ قَدَرَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute