مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْقَصْرُ رُخْصَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَصْرَ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سافر أيناً فَقَصَرَ الصَّلَاةَ "
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ فَهِيَ وَإِنِ اقْتَضَتْ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي الْجِهَادِ فَالسُّنَّةُ تَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ، فَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا مَعًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ فَمُنْتَقَضٌ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْفِطْرُ، لِأَنَّ دَاوُدَ يُجَوِّزُهُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَالثَّانِي الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَجَوَازِ قَصْرِهِ فِي الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالسَّفَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا، وَضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِطَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ
قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ إِلْحَاقًا بِالتَّيَمُّمِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ إِلْحَاقًا بِالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَجُوزُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: ١٠١] فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِحَدٍّ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ فَرْسَخًا فَقَصَرَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْحَلْبَةِ فَرَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ وَقَصَرَ، وَقَالَ إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِأُعْلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ " وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قِيلَ قَدْ رَوَيْنَاهُ مُسْنَدًا عَنْهُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمُسْنَدًا حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute