فَأَمَّا أَسْرَاهُمْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنْهَزِمِينَ دَارٌ وفيئة يَنْضَمُّونَ إِلَيْهَا: أُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ دار وفيئة: فَفِي إِطْلَاقِ أَسْرَاهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فِي حَبْسِهِمْ، إِنَّهُمْ يُسْتَبْقَوْنَ فِي حَبْسِهِمْ وَلَا يُطْلَقُونَ إِلَّا أَنْ يُبَايِعُوا وَلَا تَبْقَى لَهُمْ دَارٌ وفيئة.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي فِي حبسهم، أنم يُطْلَقُونَ لِمَا قَدْ تَمَّ مِنْ ضَعْفِهِمْ بِالْهَزِيمَةِ.
[(مسألة)]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ سَأَلُوا أَنْ يُنْظَرُوا لَمْ أَرَ بَأْسًا عَلَى مَا يَرْجُو الْإِمَامُ مِنْهُمْ وَإِنْ خَافَ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ رَأَيْتُ تَأْخِيرَهُمْ إِلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا سَأَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ إِنْظَارَهُمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْإِنْظَارِ قَرِيبًا كَالْيَوْمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَا تَتَفَرَّقُ فِيهَا الْعَسَاكِرُ وَلَا يَتَبَاعَدُ فِيهِ مُعَسْكَرُهُ، فَيُجَابُونَ إِلَيْهِ، وَيُنْظِرُهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَعَسْكَرُهُ مُقِيمٌ عَلَيْهِمْ، وَيَتَحَرَّزُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَا يَدُومُ اتِّصَالُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اسْتِرَاحَةِ عَسْكَرِهِ وَدَوَابِّهِ، فَيَجْعَلُهَا إِجَابَةً لِسُؤَالِهِمْ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْأَلُوهُ الْإِنْظَارَ مُدَّةً طَوِيلَةً كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ يَبْعُدُ فِيهَا الْمُعَسْكَرُ وَيَتَفَرَّقُ فِيهَا الْعَسَاكِرُ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَصْلَحِ، بِالْكَشْفِ عَنْ سَرَائِرِهِمْ وَعَنْ أَحْوَالِ عَسْكَرِهِمْ.
فَإِنْ عَلِمَ مِنْ مَسْأَلَتِهِمُ الْإِنْظَارَ لِيَسْتَوْضِحُوا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ أَوْ لِيَجْمَعُوا كَلِمَةَ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ أَنْظَرَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ فِي عَسْكَرِهِ قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ أَوْ ضَعْفٌ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمْ عَوْدُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الِاصْطِلَامِ.
وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الْإِنْظَارَ لِيَجْمَعُوا فِيهَا مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَيْهِ، إِمَّا مِنْ عَسَاكِرَ أَوْ أَمْوَالٍ أَوْ سَأَلُوهُ الْإِنْظَارَ لِيَطْلُبُوا لَهُ الْمَكَايِدَ أَوْ لِيَتَفَرَّقَ عَنْهُ الْعَسْكَرُ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ. نَظَرَ حِينَئِذٍ إِلَى حَالِ عَسَاكِرِهِ:
فَإِنْ وَجَدَ فِيهِمْ قُوَّةً عَلَى قِتَالِهِمْ وَصَبْرًا عَلَى مُطَاوَلَتِهِمْ لَمْ يُنْظِرْهُمْ وَأَقَامَ عَلَى حَرْبِهِمْ حَتَّى يُذْعِنُوا بِالطَّاعَةِ أَوْ يَنْهَزِمُوا.
وَإِنْ وَجَدَ فِي عَسْكَرِهِ ضَعْفًا عَنْهُمْ وَعَجْزًا عَنْ مُطَاوَلَتِهِمْ أَنْظَرَهُمْ لِيَلْتَمِسَ الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ إِمَّا بِعَسَاكِرَ أَوْ بِأَمْوَالٍ، وَجَعَلَ ظَاهِرَ الْإِنْظَارِ إِجَابَةً لِسُؤَالِهِمْ لِيُقِيمُوا عَلَى الْكَفِّ وَالْمُوَادَعَةِ، وَبَاطِنَ إِنْظَارِهِمُ الْتِمَاسَ الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يغفل عنهم.