وَأَمَّا وِلَايَةُ التَّفْوِيضِ فَهِيَ مَا فُوِّضَتْ إِلَى رَأْيِ الْأَمِيرِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ فَيُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِهَا مَعَ تَكَامُلِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ شَرْطَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ وِلَايَةٌ لَا تَصِحُّ مَعَ الرِّقِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ عِلْمُهُ بِهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أحكام جيشه إذ كَانَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي أَحْكَامِهِمْ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي أَحْكَامِهِمْ وَيَكُونُ الْقَاضِي أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهَا مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} وَلِأَنَّ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قِتَالِهِمْ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَخْوَفُ، وَهُوَ عَلَى انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ مِنْهُمْ أَحْذَرُ؛ وَلِأَنَّ قِتَالَ الْأَقْرَبِ أَسْهَلُ وَالْخِبْرَةَ بِهِ أَكْثَرُ، وَهَذَا أَصْلٌ يُعْمَلُ عَلَيْهِ تَكَافُؤُ الْأَحْوَالِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِلْأَقْرَبِ وَالْأَبْعَدِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ أَخْوَفَ جَانِبًا وَأَقْوَى عُدَّةً فَوَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَقْرَبِ وَلَا يُقَاتِلَ الْأَبْعَدَ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ قِتَالِ الْأَقْرَبِ؛ إِمَّا بِظَفَرٍ أَوْ صُلْحٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْأَبْعَدُ أَخْوَفَ مِنَ الْأَقْرَبِ فَيَبْدَأُ بِقِتَالِ الْأَبْعَدِ لِقُوَّتِهِ، لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَأْمَنُ بِهِ الْأَقْرَبَ مِنْ مُهَادَنَتِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ بِإِزَائِهِ مَنْ يَرُدُّهُ إِنْ قَصَدَهُ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَسَاوَى الْأَبْعَدُ وَالْأَقْرَبُ فِي الْقُوَّةِ وَالْخَوْفِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبُعْدَى وَرَاءَ الْقُرْبَى؛ لِأَنَّ تفريق الجيش مضيعة.
والضرب الثاني: أن يكون الْقُرْبَى فِي جِهَةٍ، والْبُعْدَى فِي أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ إِذَا تَفَرَّقَ الْجَيْشُ عَلَيْهِمَا قَدَرُوا عَلَى قِتَالِهِمَا جَازَ أَنْ يُقَاتِلَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ وَيَسْتَبْقِيَ لِلْأُخْرَى مَنْ يَقُومُ بِقِتَالِهَا إِنْ نَفَرَتْ أَوْ يَجْمَعَ قِتَالَهُمَا مَعًا، وَإِنْ كَانَ إِذَا تَفَرَّقَ الْجَيْشُ ضَعُفُوا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ الْقُرْبَى قَبِلَ الْبُعْدَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ لَا يَأْتِيَ عَامٌ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ غَزْوٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِسَرَايَاهُ عَلَى حُسْنِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونَ الْجِهَادُ مُعَطَّلًا فِي عَامٍ إِلَّا مِنْ عذر "