[(مسألة)]
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَتَى ظَهَرَ مِنْ مُهَادِنِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَأَبْلَغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ ثُمَّ هُمْ حَرْبٌ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} الْآيَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مُوجِبٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: الْمُوَادَعَةُ فِي الظَّاهِرِ.
وَالثَّانِي: تَرْكُ الْخِيَانَةِ فِي الْبَاطِنِ.
وَالثَّالِثُ: الْمُجَامَلَةُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُوَادَعَةُ فِي الظَّاهِرِ فَهِيَ الْكَفُّ عَنِ الْقِتَالِ وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُ مَا يَجِبُ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَلَا يَتَفَاضَلَانِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ إِلَّا أَنْ يُدْخِلُوهَا فِي عَقْدِ مُهَادَنَتِهِمْ، فَيَخْتَلِفَانِ فِي الذِّمَّتَيْنِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمُوَادَعَتَيْنِ، فَإِنْ عَدَلُوا عَنِ الْمُوَادَعَةِ إِلَى ضِدِّهَا، فَقَاتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَتَلُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَخَذُوا مَالَ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَتْ هُدْنَتُهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَلَمْ يُفْتَقَرْ إِلَى حُكْمِ الْإِمَامِ لِنَقْضِهَا، وَجَازَ أَنْ يُبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ وَيُشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَيُهْجَمَ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا، وَجَرَى ذَلِكَ فِي نَقْضِ الْهُدْنَةِ مَجْرَى تَصْرِيحِهِمْ بِالْقَوْلِ أنهم قَدْ نَقَضُوا الْهُدْنَةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَرْكُ الْخِيَانَةِ، فَهُوَ أَنْ لَا يَسْتَسِرُّوا بِفِعْلِ مَا يَنْقُضُ الْهُدْنَةَ لَوْ أَظْهَرُوهُ مِثْلَ أَنْ يُمَايِلُوا فِي السِّرِّ عَدُوًّا أَوْ يَقْتُلُوا فِي السِّرِّ مُسْلِمًا أَوْ يَأْخُذُوا لَهُ مَالًا أَوْ يَزْنُوا بِمُسْلِمَةٍ وَهَذَا مِمَّا يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ فِي الْتِزَامِهِ، فَإِنْ خَانُوا بِذَلِكَ حُكْمَ الْإِمَامِ تَنْتَقِضْ هُدْنَتُهُمْ، وَلَمْ تَنْتَقِضْ بِمُجَرَّدِ خِيَانَتِهِمْ، وَيَكُونُوا عَلَى الْهُدْنَةِ، مَا لَمْ يَحْكُمِ الْإِمَامُ بِنَقْضِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨] .
وَقَدْ نَقَضَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُدْنَةَ قُرَيْشٍ بِمَا أَسَرُّوهُ مِنْ مَعُونَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَيَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ مُجَاهَرَةً وَلَا يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ وَالْبَيَاتَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مُخَالِفًا لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْهُدْنَةَ تَنْتَقِضُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِالْفِعْلِ، وَتَنْتَقِضُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِالْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ فِي الْأَوَّلِ بِشَنِّ الْبَيَاتِ وَالْغَارَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ فِي هَذَا بِقِتَالِ المجاهرة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute