أَحَدُهُمَا: اعْتِكَافُهُ جَايزٌ، لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، فَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَجِيءُ إِلَيْهِ، ويسمع شهادته.
[مسألة:]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَرِضَ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ وَاعْتِكَافُهُ واجبٌ فإذا برئ أو خلى عَنْهُ بَنَى فَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ بُرْئِهِ شَيْئًا مِنَ غَيْرِ عذرٍ ابْتَدَأَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ سَابِقَةٍ فَمَرِضَ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ يَسِيرًا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، كَالصُّدَاعِ ورجع الضِّرْسِ وَنُفُورِ الْعَيْنِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُخْتَارًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ زَائِدًا لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَإِذَا بَرَأَ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ غَيْرَ مُخْتَارٍ فَصَارَ كَالْخَارِجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا آخَرَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ مِنَ الْمَرِيضِ إِذَا أَفْطَرَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَفِي مَعْنَى الْمَرِيضِ مَنْ خَرَجَ خَوْفَ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ، فَإِذَا زَالَ خَوْفُهُ عَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنَ اعْتِكَافِهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ لَهُ ظَالِمًا، وَهُوَ فِي الْخُرُوجِ مَظْلُومٌ فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ، فَإِذَا أَطْلَقَ عَادَ وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ، وَهُوَ الظَّالِمُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ، فَقَدْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِاخْتِيَارِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ وَلَا مُمْتَنِعٌ مَنْ حَقٍّ، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ قَطْعٍ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، لِذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْخُرُوجِ، فَقَدْ وجب أن يبطل اعتكافه، إذا أخرج لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، قِيلَ: لَمْ يَفْعَلْ مَا وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، وَاسْتِعَادَةِ الْمِلْكِ لِسَرِقَتِهِ، فَصَارَ كَالْمُعْتَدَّةِ تَبْنِي عَلَى اعْتِكَافِهَا، وَإِنْ فَعَلَتِ النِّكَاحَ بِاخْتِيَارِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدْ بِالنِّكَاحِ وُجُوبَ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ بِهِ اكْتِسَابَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَمَتَى قُلْنَا إِنَّ اعْتِكَافَهُ لَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِهِ فَعَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ، فَإِنْ وَقَفَ بَعْدَ فَرَاغِهِ شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute