وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْحَالَيْنِ إِلَّا حُكُومَةُ إِحْدَاهِمَا بِالِاسْتِحْشَافِ وَالْأُخْرَى بِالْقَطْعِ، تَسْتَوْفِي بِالْحُكُومَةِ جَمِيعَ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ نُقْصَانُهَا، وَيَجُوزُ زِيَادَتُهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إِحْدَى الْحُكُومَتَيْنِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِكَمَالِ الدِّيَةِ.
فَأَمَّا إِذَا جَنَى عَلَى أُذُنِهِ فَاسْوَدَّ لَوْنُهَا [فَفِيهَا حُكُومَةٌ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ] لِأَنَّ سَوَادَ اللَّوْنِ فِي الْأَبْيَضِ شَيْنٌ، وَكَذَلِكَ بَيَاضُ اللَّوْنِ فِي الْأَسْوَدِ شَيْنٌ، وَالْحُكُومَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ بَاقِيَةً.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ وَيُتَغَفَّلُ وَيُصَابُ بِهِ فَإِنْ أَجَابَ عُرِفَ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ عِنْدَ غَفَلَاتِهِ وَلَمْ يَفْزَعْ إِذَا صِيحَ بِهِ حَلَفَ لَقَدْ ذَهَبَ سَمْعُهُ وَأَخَذَ الدِّيَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ إِمَّا بِفِعْلٍ بَاشَرَ بِهِ جَسَدَهُ أَوْ بِإِحْدَاثِ صَوْتٍ هَائِلٍ خَرَقَ الْعَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ بِهِ السَّمْعُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ مُبَاشَرَةٌ فَالدِّيَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاجِبَةٌ لِأَنَّ الصَّوْتَ الْهَائِلَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ مُبَاشَرَةٌ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ مَا تُؤَثِّرُهُ الْمُبَاشَرَةُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ رِوَايَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ ".
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَأْسَ رَجُلٍ بِحَجَرٍ فِي زَمَانِ عُمَرَ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَلِسَانَهُ وَذَكَرَهُ، فَقَضَى عَلَيْهِ عُمَرُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ مِنْ أَشْرَفِ الْحَوَاسِّ فَأَشْبَهَ حَاسَّةَ الْبَصَرِ، [وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: حَاسَّةُ الْبَصَرِ] أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ بِهِ تُدْرَكُ الْأَعْمَالُ، وَقَالَ آخَرُونَ: حَاسَّةُ السَّمْعِ أَفْضَلُ، لِأَنَّ بِهِ يُدْرَكُ الْفَهْمُ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَرَنَهُ بِذَهَابِ الْبَصَرِ، لِأَنَّ بِذَهَابِ الْبَصَرِ فَقَدَ النَّظَرَ وَبِذَهَابِ السَّمْعِ فَقَدَ الْعَقْلَ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَصَرِ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: ٤٣] وَقَالَ فِي السَّمْعِ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس: ٤٢] .
(فَصْلٌ)
وَالسَّمْعُ لَا يُرَى فَيُرَى ذَهَابُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْبَيِّنَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ مَعَ التَّنَازُعِ، وَلَكِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute