للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السلام - لِرَدِّهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ إِلَى التَّعَاوُنِ بِهَا حَاجَةً مَاسَّةً وَضَرُورَةً دَاعِيَةً لِعَوَارِضِ الزَّمَانِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَوْ تَمَانَعَ النَّاسُ فِيهَا لَاسْتَضَرُّوا وَتَقَاطَعُوا.

فَصْلٌ:

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنِ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً مِنْ ثَلَاثِ أَحْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، وَلَا يَثِقُ بِأَمَانَتِهِ نَفْسِهِ فِيهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا.

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَلَيْسَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا فَهَذَا مِمَّنْ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا، وَلَزِمَهُ اسْتِيدَاعُهَا، كَمَا تُعَيَّنُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّاهِدِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَتَحَمَّلُهَا سِوَاهُ، وَكَمَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ خَلَاصُ نَفْسٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ.

وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا، وَقَادِرًا عَلَى حِفْظِهَا، وَقَدْ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَنَاءِ عَلَيْهَا، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ:

فَإِذَا قَبِلَ الْوَدِيعَةَ كَانَ قَبُولُهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا وَالرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا قَبِلَهَا مَعْرِفَةُ مَا فِيهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْدِعَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ الَّتِي يَلْزَمُهُ مَعْرِفَتُهَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَعْرِيفِهَا، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنْ فَرَّطَ كَانَ ضَامِنًا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إِنِ اتُّهِمَ فِي الْوَدِيعَةِ ضَمِنَهَا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَسُرِقَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، فَتَخَاصَمَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: هَلْ أُخِذَ مَعَهَا مِنْ ثِيَابِكِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: عَلَيْكَ الْغَرَامَةُ، فَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِابْنِ سِيرِينَ وَقَدْ حَمَّلَ مَعَهُ رَجُلٌ مَتَاعًا إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا أَنَسُ، احْفَظْهُ كَيْلَا تَغْرَمَهُ كَمَا غَرَّمَنِي عُمَرُ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ وَاضِحُ الْفَسَادِ، لِرِوَايَةِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوَدَعِ ضَمَانٌ " وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ جَابِرٍ وَدِيعَةً، فَتَلِفَتْ، فَتَحَاكَمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْتَمَنِ ضَمَانٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِيهِ تَنَازُعٌ، وَلِأَنَّ تَضْمِينَ الْوَدِيعَةِ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ التَّعَاوُنِ وَعُقُودِ الْإِرْفَاقِ، فَأَمَّا أَنَسٌ فَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ عُمَرُ لِتَفْرِيطِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى خَادِمِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى صَحَابَةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ تُهْمَةٌ.

فَصْلٌ:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً فَأَرَادَ سَفَرًا، فَالْوَدِيعَةُ لَا تَحْبِسُهُ عَنِ السَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَرَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا مَتَى شَاءَ الْمُسْتَوْدَعُ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا وَمَالِكُهَا حَاضِرٌ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>