وَخَالَفَنَا بَعْضُ مَنْ وَافَقَنَا فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ: أَنَّ كُتُبَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ إِلَى الْقُضَاةِ وَمِنَ الْقُضَاةِ إِلَى الْأُمَرَاءِ تُقْبَلُ بِغَيْرِ الشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْعُرْفِ الْمُسْتَمِرِّ.
وَالثَّانِي: صِيَانَةُ السُّلْطَانِ فَمَا يُبَاشِرُ غَيْرُهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَنْفُذْ كُتُبُ الْقُضَاةِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ مَعَ ظُهُورِهِمْ كَانَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ مَعَ احْتِجَابِهِمْ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُضَاةَ فَرُوعُ الْخُلَفَاءِ، وَحُكْمُ الْأُصُولِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ.
فَأَمَّا كُتُبُهُمْ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْكُتُبُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ فَمَقْبُولَةٌ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي أَمْثَالِهَا، مَخْتُومَةٌ مَعَ الرُّسُلِ الثِّقَاةِ لِأَنَّهَا تَكْثُرُ وَالتَّزْوِيرُ فِيهَا يَظْهَرُ وَالْهَيْئَةُ فِيهَا تَمْنَعُ وَالِاسْتِدْرَاكُ فِيهَا مُمْكِنٌ فَمِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ خَالَفَتْ كُتُبُ القضاة في أحكام الرعايا.
[(فصل: كتب قاضي أهل البغي) .]
وَإِذَا كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابًا فِي حُكْمٍ بِحَقٍّ، نُظِرَ: كَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لِمُوَافَقه بِقَوْلِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْكُمُ لِمُوَافَقه بِقَوْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتَهُ، فَفِي قَبُولِ كِتَابِهِ بِالْحُكْمِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ (قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ) ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُهُمْ مُمْضَاةٌ لَا يُرَدُّ مِنْهَا إِلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ حُكْمِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُ كُتُبِهِمْ كَذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَيْسَ لِقَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْبَلَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ.
وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ:
وَيُقْبَلُ كُلُّ كِتَابٍ لِقَاضٍ عَدْلٍ، فَكَانَ دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يُقْبَلَ كِتَابُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ كِتَابَهُ وَإِنْ لَمْ نَنْقُضْ حُكْمَهُ.
لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْقَضُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ وَالْكِتَابُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. فَافْتَرَقَا.