قُبَلِ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ قَالَ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدًا، لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا أكثر من مئة عَدَدًا، وَسَوَاءٌ بَيَّنَ الدَّنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهَا.
وَلَوْ قَالَ أَكْثَرُ مِنْهَا جِنْسًا وَعَدَدًا لَمْ يُقْبَلْ منه إلا أكثر من مئة دِينَارٍ وَلَوْ بِأَدْنَى زِيَادَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[مسألة]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ أَوْ عَظِيمَةٌ أَوْ لَمْ يَقُلْهَا فَهِيَ ثلاثةٌ ".
قَالَ الماوردي: وهذا صحيح. إذا قال: له عليَّ دَرَاهِمُ فَأَقَلُّ مَا يُقْبَلُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْأَعْدَادِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ اثْنَانِ، فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ " وَبِقَوْلِهِ تعالى: {وَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السُّدُسُ) {النساء: ١١) .
ثُمَّ كَانَتِ الْأُمُّ تُحْجَبُ بِالِاثْنَيْنِ وَإِنْ ذُكِرُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ مُشْتَقٌّ مِنِ اجْتِمَاعِ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّاذَّةِ أَنَّ اللِّسَانَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْآحَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَالْآحَادُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ مِنَ الْأَعْدَادِ وَالتَّثْنِيَةُ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ، وَالْجَمْعُ يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ يَسْلَمُ فِي التَّثْنِيَةِ وَلَا يَسْلَمُ فِي الْجَمْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّفِقَ العدد فيهما مَعَ اخْتِلَافِ صِيغَةِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُمَا.
فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جماعةٌ " فَهُوَ الدَّلِيلُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي اللِّسَانِ لَاسْتغْنى فِيهِ عَنِ الْبَيَانِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَعْلَمُ الْأَسْمَاءَ وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ فَأَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ اللِّسَانُ فِي اللُّغَةِ.
فَأَمَّا حَجْبُ الْأُمِّ بِالْأَخَوَيْنِ فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ فِيهِ عَلَى صَرْفِ الْحُكْمِ عَمَّا اقْتَضَاهُ اللِّسَانُ أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى اللِّسَانِ وَقَالَ: تَرَكْتَ لِسَانَ قَوْمِكَ فَلَمْ يُنْكِرْ عُثْمَانُ مُخَالَفَتَهُ لِمُقْتَضَى اللِّسَانِ فأخبره أَنَّ الدَّلِيلَ صَرَفَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْجَمْعَ مُشْتَقٌّ مِنْ جَمْعِ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ فَيُقَالُ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ كَمَا أَنَّ التَّثْنِيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اجْتِمَاعِ الِاثْنَيْنِ.