وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمَمْنُوعُ بِحَبْسٍ أَوْ غَيْبَةٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْخَرَسَ وَالْغَيْبَةَ لَا يُوجِبَانِ الْحَجْرَ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: ٢٨٢] فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرِيدُ وَلِيَّ الْحَقِّ وَهُوَ صَاحِبُهُ أَنْ يَعْدِلَ فِي إِمْلَائِهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْحَقِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى وَلِيِّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِيمَا لَزِمَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: ٢٨٢] بِمَعْنَى الَّذِي لَهُ الْحَقُّ فَأَقَامَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى لَهُ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ. فَدَلَّتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى الْحَجْرِ.
أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى: فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ وَهُمَا: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، اقْتَضَى أَنْ لَا يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ قَبْلَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْحَجْرُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِمْلَاءِ عَنِ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنَّهُ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ بِدَيْنِهِ) فَلَمَّا أَوْقَعَ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَانَ وُقُوعُهُ لِنَفْسِهِ أَوْلَى.
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدَعُ فِي بِيَاعَاتِهِ، فَحَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَ مِثْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ عقوده منبرمة وجعل له خيار ثلاث وَقَالَ لَهُ: " إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حِينَ سَأَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ وَإِجْمَاعُ بَاقِي الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ حَتَّى كَانَ مِنْ شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.
[(فصل: القول في أسباب الحجر)]
فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْحَجْرِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْحَجْرُ مُسْتَحَقٌّ مِنْ ثمانية أوجه: