[(مسألة)]
: قال الشافعي: " وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى ضِيَافَةِ مَا ضِفْتَ ثَلَاثًا قَالَ وَيُضِيفُ الْمُوسِرُ كَذَا وَالْوَسَطُ كَذَا وَيُسَمَّى مَا يُطْعِمُونَهُمْ خُبْزُ كَذَا وَيَعْلِفُونَ دَوَابَّهُمْ مِنَ التِّبْنِ وَالشَعِيرِ كَذَا وَيُضِيفُ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى كَذَا وَأَيْنَ يُنْزِلُونَهُمْ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ أَوْ فِي كَنَائِسِهِمْ أَوْ فِيمَا يُكِنُّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى عَقْدِ الْجِزْيَةِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ عَنْ نَصَارَى أَيْلَةَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَنْ يُضِيفُوا مَا مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَغُشُّوا مُسْلِمًا.
وَصَالَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَارَى الشَّامِ عَلَى أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَضِيَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَلِأَنَّهُ مِرْفَقٌ يُسْتَزَادُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ سَابِلَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي عَقْدِ هَذِهِ الضِّيَافَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: حُكْمُهَا فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: حُكْمُهَا فِيمَنْ تُشْتَرَطُ لَهُ.
وَالثَّالِثُ: حُكْمُ بَيَانِهَا.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ، فَمُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبْذُلُوهَا طَوْعًا لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا عَقْدُ مُرَاضَاةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا عَنِ اخْتِيَارٍ كَالْجِزْيَةِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنَ الضِّيَافَةِ، وَلَمْ يُجِيبُوا إِلَى غَيْرِ الدِّينَارِ قُبِلَ مِنْهُمْ، وَأُسْقِطَتِ الضِّيَافَةُ عَنْهُمْ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا بَعْضُهُمْ، وَأَجَابَ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَتْ عَمَّنِ امْتَنَعَ وَلَزِمَتْ مَنْ أَجَابَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهَا لَا يَضْعُفُونَ عَنْهَا إِمَّا لِخِصْبِ بِلَادِهِمْ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهَا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهَا، وَاخْتَصَّ وَجُوبُهَا بِالْأَغْنِيَاءِ وَالْمُتَوَسِّطِينَ دُونَ الْمُقِلِّينَ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ تَتَكَرَّرُ فِي السُّنَّةِ، وَالْجِزْيَةَ لَا تَتَكَرَّرُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ جزية رؤوسهم وَهُوَ الدِّينَارُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ، لِيَكُونَ زِيَادَةَ مَعُونَةٍ وَمِرْفَقٍ، فَإِنْ جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ هِيَ الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يُؤْخَذْ دِينَارُ الْجِزْيَةِ، فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجُمْهُورِ