[(مسألة:)]
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ هِبَةً فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ نَحَلَهُ أَوْ أَعْمَرَهُ فَهُوَ هبةٌ فَإِنْ أَسْكَنَهُ فَإِنَّمَا هِيَ عاريةٌ لَمْ يُمْلِكْهُ إِيَّاهَا فَمَتَى شَاءَ رَجَعَ فِيهَا وَكَذَلِكَ إِنْ حبس عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ هِبَةً، فَالْهِبَةُ مِمَّا تَبَرَّعَ بِتَمْلِيكِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَتَمَلَّكُ عَنْهَا، فَيَحْنَثُ بِالْهِبَةِ إِذَا قَبَضَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَا يَحْنَثُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَحْنَثُ بِالْهَدِيَّةِ إِذَا قُبِضَتْ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا عُقْدَةٌ لأن العقد يعتبر فِي الْهِبَاتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْهَدَايَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي كِتَابِ الْعَطَايَا وَيَحْنَثُ بِالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْهِبَاتِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ "، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، ثُمَّ إِذَا قُبِضَتِ الْهِبَةُ عَنْ عَقْدٍ تَقَدَّمَهَا فَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ حَتَّى يَمْلِكَ الْهِبَةَ:
أَحَدُهُمَا: بِالْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ وَقْتَ إِقْبَاضِهَا.
وَالثَّانِي: إنَّهُ يَدُلُّ الْقَبْضُ عَلَى مِلْكِهَا وَقْتَ عَقْدِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَانِثًا وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا عَقَدَ الْهِبَةَ وَنَقَلَ، أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَرَدَّهَا، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَتِمَّ تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ يَحْنَثُ لِتَعَلُّقِهَا بِفِعْلِهِ، تَخْرِيجًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا إِذَا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ فَالصَّدَقَةُ ضَرْبَانِ فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَا اتِّفَاقًا لِخُرُوجِهَا عَنْ تَبَرُّعِ الْهِبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ تَطَوُّعًا كَانَتْ هِبَةً يَحْنَثُ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْهِبَاتِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا؛ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُهُمَا فِي الِاسْمِ لِأَنَّ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا اسْمًا.
وَالثَّانِي: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا.
وَدَلِيلُنَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِاتِّفَاقِهِمَا فِي التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ.
وَالثَّانِي: لِاتِّفَاقِهِمَا فِي سُقُوطِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الِاسْمِ؛ فَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ نَوْعٌ فِي الْهِبَةِ، فَدَخَلَتْ فِي اسْمِ الْعُمُومِ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ فَهُمَا فِيهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَقَاصِدِ. فَالْهَدِيَّةُ لِمَنْ عَلَا